تتواتر الأنباء عن قرب التوصل إلى صفقة، أسّست لها معطيات الميدان ومجريات الحرب قبل أن يجتمع الرباعي الأميركي الإسرائيلي مع مصر وقطر في العاصمة الفرنسية قبل بضعة أيام.
الولايات المتحدة قبل إسرائيل، وبسبب فشلها وأدائها السيئ، اضطرّت للنزول من على أعلى الشجرة، حتى باتت تبحث عن مخرجٍ من الورطة التي اندفعت إليها مع حلفائها “الغربيين”.
في بداية الحرب ومنذ اليوم الأوّل، اتفق الجميع بقيادة الولايات المتحدة على أهداف بعيدة المدى، وفي تقدير مديري الحرب، أنّ أمر تحقيق تلك الأهداف وتحقيق الانتصار لن يستغرق أكثر من أسابيع، أو أشهر قليلة في أسوأ الأحوال.
القضية الفلسطينية برمّتها كانت في المهداف الأوّل، وبدا وكأنّ إدارة الحرب واثقة من أنّ الوقت قد أزف، وأنّ المبرّرات متوفّرة لحسم الصراع الذي وضعته حكومة “اليمين” الفاشي على سُلّم أولويّاتها.
قد ينسى البعض بعد مرور أكثر من أربعة أشهر، أنّ التحالف الدولي، وقاعدته المتقدمة إسرائيل، اعتقد أنّ تصفية القضية الفلسطينية كانت ستتمّ عَبر تهجير سكّان قطاع غزّة إلى سيناء المصرية، وأهل الضفة الغربية إلى الأردن.
كان الهدف الثاني في حال تصفية القضية الفلسطينية، إعادة هيكلة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية أساساً من جديد بما يمكّن الولايات المتحدة من تعميق سيطرتها لعقودٍ أخرى على المنطقة.
لم تتنازل الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ مرحلة بوش الابن عن تغيير جغرافيا المنطقة العربية تحت عنوان “الفوضى الخلّاقة” و”الشرق الأوسط الجديد”، ولكن جو بايدن اعتقد أنّه الملك الذي سيفوز بالإبل.
يدرك العرب دون شكّ أنّ المقاومة الفلسطينية قد شكّلت الجدار الصلب الذي أفشل المخطّطات الأميركية الإسرائيلية، وأطاح بأحلامهما، بل هدّد مصالحهما الاستراتيجية في المنطقة.
هبطت السقوف وأصبحت الولايات المتحدة وحلفاؤها يبحثون عن مخرجٍ لن يكون مُشرّفاً بأيّ حالٍ، في الوقت الذي تشير التطوّرات إلى أنّ هذه الحرب في طريقها إلى التوقُّف.
أكثر من أسبوع مرّ على “اجتماع باريس”، وصلت اقتراحات الإطار إلى إسرائيل، التي حرصت قيادتها على الاستمرار في إظهار تطرُّفها وتمسُّكها بهدف تحقيق النصر الحاسم، والإفراج عن الأسرى، وتحطيم القدرات العسكرية للمقاومة، وإقصائها عن ميدان الفعل.
أصبح الهدف المركزي لقيادة الحرب، ومن يدعمها، الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، الذين سقط 20% منهم بسبب القصف الهمجي، انقسم “مجلس الحرب”، وانقسم الشارع الإسرائيلي، حول الأولويات والأهداف، وحول اليوم التالي.
لو كان الأمر بيد بنيامين نتنياهو، فهو يسعى لإدامة الحرب لأطول فترةٍ ممكنة، حتى لو أدّى ذلك للتضحية بكلّ الأسرى من جنوده وضبّاطه، وحتى لو تكبّدت إسرائيل المزيد من الخسائر التي لا تحتملها دولته.
لكن رغبة نتنياهو في إنقاذ حياته ومستقبله السياسي اصطدمت برغبة مناوئه في إسقاط حكومته، والأهمّ أنّه اصطدم بسعي بايدن لإنقاذ نفسه هو الآخر، وإنقاذ مصالح الولايات المتحدة بما في ذلك إنقاذ إسرائيل نفسها.
الولايات المتحدة كما إسرائيل، شدّدتا من ضغوطهما على فصائل المقاومة، من خلال وقف تمويل “الأونروا”، استناداً إلى مزاعم إسرائيلية ملفّقة، وعقوبات فرضتها على بعض قيادات “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، ولحقت بها جوقة الذيول الأوروبية.
نتنياهو واصل القصف الهمجي والعقوبات الجماعية، وحرب التجويع والتهديد بالانتقال إلى منطقة رفح، وحديث متواتر عن أنّه لن يوقف الحرب، ولن يسحب قوّاته من القطاع، وأنّه يقترب من تدمير قدرات “حماس”.
ماطل نتنياهو و”مجلس حربه” في الاستجابة لأوامر السيّد الأميركي بشأن استهداف المدنيين وإدخال المزيد من المواد الإغاثية إلى القطاع بما في ذلك شماله، ما أخرج إدارة بايدن عن صبرها.
وفي الوقت الذي واصلت فيه الإدارة الأميركية العمل من أجل عدم توسيع نطاق الحرب، فإنّ إسرائيل كانت تحاول أن تفعل العكس، وتحاول توريط الولايات المتحدة والحلفاء في حربٍ واسعة.
فرطت مسبحة الحلفاء، وتغيّر الكثير من المواقف، تحت ضغط الفشل الإسرائيلي، وضغط الرأي العام العالمي، وتحت ضغط المشاهد التي تسبّبت بها دولة الاحتلال في قطاع غزّة، وحوّلتها إلى دولة منبوذة وحاصرت روايتها.
الأمر برمّته منذ البداية وحتى الآن، حرّك العالم بأسره كما لم تحرّكه الحرب في أوكرانيا، على أهمّيتها وخطورتها، فلقد أصبحت القضية الفلسطينية على أجندة أنظمة العالم، كما على أجندة الرأي العام العالمي.
من مجريات البحث عن صفقةٍ تريدها الولايات المتحدة للإفراج عن الأسرى الإسرائيليين، وضمان أمن إسرائيل، وتريدها المقاومة لوقف الحرب ورفع الحصار، وإدخال المواد الإغاثية لكل مناطق القطاع، وإعادة الإعمار، والإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، من مجريات هذا الجهد، تضطرّ إسرائيل، وتضطرّ الولايات المتحدة والوسطاء انتظار موقف المقاومة الفلسطينية.
هكذا يبدو الأمر على أنّ المقاومة هي صاحبة اليد العليا بعد أن أثبت الميدان قدرتها على التصدّي وإلحاق خسائر يومية بجيش الاحتلال الذي يُقهر أمام أنظار العالم.
المقاومة بحاجة إلى تخفيف وطأة الكارثة التي تحلّ بأهل غزّة، وهي بحاجة إلى وقف الحرب، وإنجاز صفقة تحرير الأسرى الفلسطينيين، لكنها لن توافق على صفقة تؤدّي إلى هدنة مؤقّتة حتى لو كانت لأسابيع أو أشهر قليلة.
القرار عند الإدارة الأميركية في الأساس، إذ إنّ نتنياهو لا يستطيع المقاومة أكثر، خاصة أنّ المتطرّفين في حكومته لا يتوقّفون عن الإساءة لبايدن وإدارته.
في كلّ الأحوال، أعتقد أنّ التوصل إلى صفقة مُرضية للطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لن يكون سهلاً، والأرجح أن يستغرق ذلك المزيد من الوقت، ولكنّها ستتمّ في نهاية الأمر.
توقُّف الحرب مهما كان شكل هذا التوقُّف لا يعني توقُّف الصراع، فالأسئلة الصعبة بشأن “اليوم التالي” كثيرة وخطيرة. المهمّ أنّ وقف الحرب يفترض أن يشكّل فرصة للفلسطينيين لكي يُعيدوا بناء نظامهم السياسي من دون وهم إقصاء أحد، ما سيُعمّق فشل النظام العنصري الإسرائيلي، الذي ينتظر انقسامات وأزمات لم يعهدها من قبل.
وفي الوقت ذاته، ينبغي عدم التوقُّف عن تحريك الرأي العام العالمي وتصعيد نشاطاته، إلى الحدّ الذي أشار إليه المحامي الفرنسي فرانك رومانو الذي دعا المتضامنين لاقتحام مواقع وإدارات رسمية في دول أوروبا الغربية.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0