اللغة العربية بين المواكبة والإنحسار ..ميساء جيوسي

يحتفي العالم في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام باليوم العالمي للغة العربية، حيث يعود الإحتفاء بهذا اليوم لما تلى قرار رقم 3190 الصادر الجمعية العامة للأمم المتحدة  كانون الأول/ ديسمبر عام 1973، حيث تم حينها إدراج اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية في الأمم المتحدة. وفي هذا السياق يمكن القول بأن لغة ينطق بها ما يقارب377 مليون نسمة سكان الوطن العربيهي لغة جديرة بأن يعمل الجميع وعلى كافة المستويات ليس فقط للحفاظ عليها من خلال الإحتفاء بها، لكن العمل الجاد على استمرارية مواكبتها للتغيرات التكنلوجية السريعة التي تجعل من ضرورة تطويرها وإستحداث مصطلحات جديدة حاجة أساسية نحو استدامتها لا رفاهية تقبل النقاش والتأجيل. 

ولعل اللغة العربية لا تقف وحيدة في تحديات تواجهها الكثير من لغات العالم في ظل العولمة والإنتشار الكبير للغة الإنجليزية بشكل أساسي، هذا الإنتشار المتصل بإستخدامها في كافة الوسائل التكنلوجية والعلوم الحديثة وما اتصل بها من استخدامات. وهنا لا بد من الفهم بأن المحافظة على حيوية اللغة العربية وتطويعها لمواكبة الجديد لا يتعارض والإنفتاح على اللغات الأخرى والاستفادة منها بأكبر قدر ممكن. وليس أكثر دلالة على ذلك من استفادة الحضارة الغربية ولقرون عدة خلت من إنجازات العلوم والفكر في الحضارة العربية الإسلامية والتي لا يحب الغرب في كثير من المواضع الإعتراف بها وإعطائها حقها لما يتعارض وما يطرحونه من أنهم هم أصل كل حضاري ومتطور من العلوم والمعرفة.

لكن الخطير في الأمر اليوم، بأننا نقف أمام مد جارف من العزوف عن هذه اللغة العريقة لصالح لغات اهمها اللغة الإنجليزية. وتقع المسؤولية هنا على مستويات عدة تبدأ من الأسرة فالمدرسة فباقي منظومة التعليم والعمل. ومن المهم إيجاد ما يجد استحسانا لدى الأجيال الصاعدة من تطوير للغة يجعلها أقرب إتصالا لنسق حياتهم السريع الذي يضطرون فيه لتبني اللغة الإنجليزية لكثير من الاستخدامات ، يقابلها بطئا او عجزا ان صح التعبير في مجاراتها من قبل القائمين على تعريب الاستخدامات التكنلوجية والعلمية في المقابل. 

ليس فقط فيما يختص بمصطلحات التكنلوجيا والعمل لكن مما لحظت خلال تنقلي سنوات في اماكن مختلفة حول العالم ندر لقائي بأي أجنبي يعمل في بلد غير بلده الأم ولا يجيد هو أو ابناؤه لغتهم الأم بطلاقة، بمعنى اني لم ارى طفلا اسبانيا يعيش خارج بلده ولا يتكلم الاسبانية، ولا طفلا روسيا يعمل والديه خارج روسيا يفقد مفردات لغته الام. الا العرب وأبناؤهم- إلا من رحم ربي-ينتقل احدهم للخارج بهدف كسب الرزق وإيجاد فرصة أفضل للعمل. وبعد عدة اعوام لا يعرف الكثير منهم معنى اسمه في لغته، لا يدرك حدود بلده الام، لا يقرأ في تاريخه ولا يعي شيئا عن بلده. فينمو الصغير تائها لا يتقبله المجتمع المضيف بشكل كامل، ويشعر بإغتراب حين العودة حتى المحدودة الى بلده. وهنا لابد من الوقوف أمام علامة سؤال كبيرة تلي تساؤلنا لماذا لا نحرص على ان يتكلم ابناؤنا لغتهم العربية بطلاقة فهي جزء من هويتهم وتكوينهم وليست علامة من علامات الفقر والتخلف كما يراها محدثي النعم قصيري الرؤية وعديمي الفهم؟

قد يقول احدهم بأن اللغة العربية لم تعد مجدية في الكثير من ميادين العلم والمعرفة لعدم مرونتها وقدرتها على استيعاب الكم الهائل من التطور التكنلوجي وثورة المصطلحات المتزامنة وعصرنا الحديث. ولهؤلاء اقول، الحق معكم، لكن اللغة اداة نطوعها واللغات كالكائنات ركودها يعني الموت وعدم رفدها بما هو جديد وتطويعها للتماشي مع متطلبات العصر يعني ان تدهورها نحو الهاوية هو مسألة وقت لا اكثر.

وهنا نقول إن العمل الجاري حاليا في العديد من الدول العربية جنبا إلى جنب وجهود جامعة الدول العربية في العمل على تعزيز والارتقاء باللغة العربية بقديم إرثها وحديث تبنيها لكل جديد لا بد أن يشاد به، لكن من الموضوعي القول بأنه ليس كافيا لمواكبة هذا التطور التكنلوجي العلمي المتسارع.

ولنبتعد عن رمادي الصورة ونتجه لما يعد إنجازا، فالإحتفال هذا العام بلغة الضاد يمتاز بنكهة مختلفة ذات عراقة تتصل بأصالة اللغة حيث نجحت جمهورية مصر العربية في خطوة هامة بإدراج الخط العربي في قائمة الصون العاجل للتراث الثقافي غير المادي بمنظمة اليونسكو حيث جاء هذا الإنجاز المصري مدعوما بمشاركة 16 دولة عربية. اليوم تقع على مسؤولية كل منا الحفاظ على اللغة العربية ما إستطعنا لذلك سبيلا في البيت والمدرسة وأماكن التعليم العالي وبيئات العمل وفي معاملاتنا اليومية، فلا حافظ ولا حارس للغتنا سوانا وسوا أجيال نحن مسؤولون عن تسليمها لغة الأجداد بفخر لا يلغي إنفتاحهم على الجديد لكن لا يزحزح تجذرهم في هويتهم التي تعد اللغة أساسا من أساسياتها وركائز تطورهم ونهضتهم. 

اختم بإستعراض لما قاله إدوارد سعيد حينما سئل عن رأيه باللغة العربية فقال” أعتقد بأن اللغة العربية هي من أروع ما أبدعه العقل البشري. فهي لغة الشعر والتصوف والعبادة، لغة القانون، لغة الفكاهة والسرد كألف ليلة وليلة ورحلات إبن بطوطة وغيرها. كما إنها لغة احدى الديانات العظيمة التي إرسلت بالعربية أعني أن القرآن كلام الله مرسل باللغة العربية” فهي في منظوره من أهم ما يجمع العرب ويشكل هويتهم القومية بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية. 

ونختم بمسك الكلام فيما قاله عميد الأدب العربي في لغة الضاد حين قال ” اللغة الفصحى هي الطريقة الوحيدة الى تحقيق الوحدة بين الأمم العربيةـ فإذا كتبت بالفصحى فهمك العرب من المحيط إلى الخليج” رحم الله من أوصلو لنا بفخر هذه اللغة وسامحنا الله على ما اقترفنا بحقها ولازلنا من جرائم أهمها إهمالها بحجة عجزها عن مواكبة التطور وهي حجة ليس لها من الصحة أساس. 

وكل عام ومحبي لسان الضاد والناطقين به بألف خير ويمن وبركة.