من واقع وظيفتي كدبلوماسي سابق، وأرأس حالياً نادي الصيد الخاص بالدبلوماسيين في روسيا، إلى جانب نشاطي الإعلامي الذي أمارسه من خلال كتابة المقالات كمحلل سياسي، وكمتابع للشأن الروسي، فقد تلقيت في الفترة الأخيرة اتصالات متعددة من دبلوماسيين يتساءلون حول بعض القضايا والأحداث الأخيرة على الساحة الدولية.
كان محور اتصال السفراء الأجانب حول كيفية تطور الأحداث في أوكرانيا، وما إذا كانت الأزمة ستطول، وهل يمكن أن تقوم بلدانهم بدور الوسيط لحل الأزمة ووقف القتال وغيرها من الأسئلة الكثيرة، وهو ما يدفعني اليوم لكتابة هذه الرسالة للجميع، لعلها ترد على معظم الأسئلة المطروحة، من وجهة نظري الشخصية.
ليس للعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا جدول زمني محدد، سوى انتهاء تنفيذ أهدافها الواضحة والمعلنة من قبل القيادة الروسية. ولن يستطيع أي زعيم حول العالم، مهما كانت الجهود المبذولة والرغبة الصادقة في التأثير على سير العملية العسكرية وأهدافها المتمثلة في تدمير البنى التحتية من مطارات ومنشآت عسكرية استخدمها “الناتو” في مناوراته العسكرية على الأراضي الأوكرانية، وتجريد أوكرانيا من السلاح، وإسقاط النظام الحالي في كييف، وما يترتب على ذلك من إبعاد الرئيس الحالي، فلاديمير زيلينسكي، عن الحكم وجميع من حوله من المتطرفين، وإنهاء أي أنشطة للمجموعات النازية العنصرية وخلق ظروف آمنة لتشكيل الشعب الأوكراني سلطة إنقاذ مؤقتة تعترف بشرعية خيار سكان القرم في انضمام شبه الجزيرة إلى روسيا، وباستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك. وتعهد أوكرانيا بعدم الانضمام لحلف “الناتو”، أو السماح للحلف بالتواجد على أراضيها، أو ممارسة أي نشاطات.
يأتي هذا القرار بعد ثمان سنوات طويلة، لم تجد فيها نفعاً كل المفاوضات والمباحثات والمحادثات والمناشدات للنظام في كييف بالالتزام باتفاقيات مينسك، وبعد أن تأكّد للقيادة الروسية بنسبة 100%، من خلال المعلومات الاستخبارية والاستطلاعية وغيرها من القنوات المختصة، نوايا وخطط “الناتو” للتوسع في الشمال الشرقي لأوروبا، واستخدام الأراضي الأوكرانية لتهديد الأمن القومي الروسي.
لذلك فإن تلك القضية خرجت الآن من حيز المناقشة والتفاوض، بعد استنفاد كل الفرص المتاحة خلال السنوات الثمان الماضية. لهذا فإن محاولات الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني للعب دور في العودة إلى اتفاقيات مينسك ليست سوى محاولات بائسة لإحياء ما قتله النظام الأوكراني بأيديه مع سبق الإصرار والترصد والعند والصلف والعجرفة التي لم يكن لها حدود، وبعد أن صبرت روسيا على كل الحماقات والمهاترات والمزايدات الإعلامية الحمقاء من جانب النظام في كييف، احتماءً بـ “الناتو” والولايات المتحدة الأمريكية، حيث كانت الأخيرة تقوم بالتحريض الصريح لأوكرانيا ضد روسيا.
لقد اعترفت روسيا فعلياً باستقلال جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وسيبقى التواجد العسكري في أوكرانيا، حتى تتمكن من إعادة هيكلة جيشها الأوكراني المستقل، وهيكلة أجهزتها الأمنية العادلة التي تساوي بين جميع المواطنين، وبهذا الصدد أشير إلى أن روسيا ترفض، تحت أي ظرف من الظروف، تقسيم أوكرانيا، ولن تقوم أي “أوكرانيا غربية” وأخرى “شرقية”، والهدف من المفاوضات بين روسيا والقيادة الحالية هو فقط للاتفاق على استسلامهم الكامل، كما حدث من قبل مع ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وكلما أسرعنا في التوصل لذلك، كلما قلّ عدد الضحايا لهذا النظام العنصري.
وفي هذا المقام، لا يفوتني التنويه إلى الجريمة النكراء التي فضحها الجيش الروسي في أوكرانيا حين اكتشف شبكة من 36 مركز بيولوجي بتميل أمريكي في جميع أنحاء أوكرانيا، نشطت في ابتكار الأسلحة البيولوجية. ولا شك أن مثل تلك “المراكز البيولوجية” توجد في عدد من دول العالم الأخرى، ما يدل على الهوة الأخلاقية والإنسانية السحيقة التي تنظر من خلالها النخب الأمريكية لبقية شعوب العالم، التي لا تزال تعاني من وباء فيروس كورونا ومتحوراته المختلفة، والتي يتكشف لنا الآن إنها ربما كانت من إنتاج تلك “المراكز البيولوجية” الأمريكية، التي أنشأها الشركاء الأمريكيون فيما يبدو لنشر “الديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان”!
لقد اكتشف الجيش الروسي تلك المراكز بمحض الصدفة، وأنكرتها أوكرانيا وبالطبع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن، وبضغط من مجلس الشيوخ الأمريكي على المسؤولين الأمريكيين حول حقيقة وجود وانتشار هذه المراكز في جميع أنحاء العالم، اعترف هؤلاء بوجودها. وقد سبق وعانت روسيا من تسرب بعض الميكروبات من أحد المعامل المنتشرة أيضاً في جورجيا وأصيبت ثروتها الحيوانية في مقتل. هذا هو الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية.
وإجابة على أسئلة بعض السفراء العرب المعتمدين لدى روسيا حول الدور الذي تلعبه إسرائيل من خلال الزيارة التي قام بها رئيس وزرائها إلى موسكو، والمكالمات الهاتفية المتعددة مع الرئيس الروسي، أود التوضيح هنا أن روسيا لا يمكن أن تقبل بأي دور وساطة إسرائيلية، خاصة أن إسرائيل نفسها تقوم بنفس الدور والممارسات العنصرية، التي يقوم بها النظام الأوكراني الحالي تجاه شعوب جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، تجاه الشعب الفلسطيني الأعزل على مدى سبعين عاماً. وهذا موقف مبدئي روسي للقيادة والشعب الروسي، أما قلق إسرائيل فهو بشأن مئتي ألف من اليهود المتواجدين على الأراضي الأوكرانية ويحملون جوازات سفر إسرائيلية، وأكثرهم في كييف، وهو أمر تتفهمه القيادة الروسية وتتخذ كافة الإجراءات لحماية جميع المدنيين من المواطنين الأوكرانيين والأجانب المقيمين بأوكرانيا، لا المواطنين الإسرائيليين وحدهم، أثناء العملية العسكرية الخاصة.
فيما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية وأضرارها ومدى تأثيرها على روسيا، فلا أريد الدخول في التفاصيل، وأكتفي بالقول بأن المستوى المتدني من الأخلاق الغربية وغياب أدنى حدود الإنسانية يتجلّى في إصدار واشنطن تعليمات لشركات الأجهزة الطبية التي تتعاون مع روسيا بتعطيل عمل أجهزتها التي تدار إلكترونياً من مصدر مصنعيها.
على سبيل المثال لا الحصر، تم تبطيل عمل أجهزة الليزر بالفيمتوثانية، والذي يستخدم في الجراحات الدقيقة للعيون لاستئصال العدسة وعلاج الأخطاء الإنكسارية للعين. لم تعد تلك الأجهزة تعمل في روسيا. ومن الواضح أن كثير من مشاريع التعاون بين الولايات المتحدة والغرب من جانب وروسيا من الجانب الآخر سوف تستخدم الآن كأداة ضغط على روسيا بما في ذلك تجميد كل العملة الصعبة، والبورصات، وحسابات المواطنين الروس، وإيقاف تصدير قطع غيار السيارات والمعدات الأجنبية الأخرى، وإغلاق المجالات الجوية. إن ذلك جميعاً يحشد الشعب الروسي وراء قيادته، ويعري له الوجه الحقيقي للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، ومقدار ما يكنّوه للشعب الروسي والثقافة الروسية من عداء وكراهية وضغينة.
سوف ينقلب ذلك عليهم جميعاً، وروسيا جاهزة لكل هذه العقوبات، والشعب الروسي، وإن توقف عمل الأجهزة الغربية لتصويب وتحسين البصر، قادر على الإبصار ورؤية ما يدور حوله من أحداث بدقة ووعي وإدراك لما يدبرون له.
إن ما يحدث في أوكرانيا، وأكرر ذلك، ليس حرباً وإنما هي عملية عسكرية خاصة، ونشوب حرب في هذه المنطقة الحساسة، إذا ما تصوّر البعض إمكانية تورط “الناتو”، يعني تدمير أوروبا بالكامل، وهو ما لا يريده أحد، وروسيا لن تستنزف كما يتنظرون.
كاتب ودبلوماسي مقيم في موسكو
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0