من القدس إلى الإقليم ..الطوفان لم يقل كلمته بعد..

يحضرني ونحن على اعتاب الذكرى الاولى لطوفان الأقصى العديد من الاستنتاجات والإستخلاصات الأولية كون الطوفان لا زال يفعل فعله، بل تحول الى طوفان إقليمي وكما يبدو لن يسلم منه احد، لان طبيعة الطوفان منذ انطلاقه في فجر يوم السابع من تشرين/ أكتوبر، أسس لِفكرة تتعلق بطبيعة الوجود، صحيح أنه لم يشكل خطر وجودي مباشر على دولة الكيان، لكنه من الناحية الإستراتيجية ضرب مكنوناته التي كان يتفاخر فيها خاصة في مجال الاستخبارات والامن وبما يعطي مواطن المستعمرة الشعور ليس بالامن وحده وإنما بغرور القوة والقدرة، وهنا وقعت الواقعة التي لا يمكن مواجهتها، وهو الشعور بالأمن في السيكلوجية التي يتشكل منها المستوطن في مستوطنته “المناعة القومية والشخصية”، حيث لا انفصال بين الطرفين، لان بقاء المستوطنة لا يمكن أن يستمر دون أن يشعر هذا المستوطن بمفهوم الأمن التام، لذلك كان زلزال السابع من تشرين/ أكتوبر عبارة عن ضربة لا يمكن محوها في صميم الوجود المرتبط بالمفهوم الأمني الشخصي للمستوطن، وأدى ذلك بشكل لا يقبل للشك لتحطم شخصية المستوطن الذي نشأ عليها منذ تأسيس الكيان عام 1948، فلا الجدار الحديدي لجابوتنسكي ولا نظرية الردع ولا القوة ومزيد من القوة، ولا مفاهيم التحذير المستندة لأرقى التكنولوجيا في العالم، استطاعت ان تُؤدي إلى ثبات في سيكولوجية المستوطن الذي استند الى جيش قوي مجهز باحدث الاسلحة والتكنولوجيا والى جهاز أمني باعه طويل ولديه قدرات احيانا ينظر إليها على انها خارقة، لكن مجموعة من مئآت القسّاميين وضعت كل تلك المنظومة العسكرية والأمنية في الحضيض، بل حضرت امريكا واوروبا المنافقة وبأقصى سرعة لشد ازر الكيان ومنعه من الانهيار الداخلي من هول الصدمة

طبيعة الحدث وضع العديد من المعضلات أمام قيادة الكيان السياسية والأمنية، وبدأ النقاش حول أفضل السبل لاعادة عجلة التاريخ التي لن تعود، وأهمها شعور المستوطن بالأمن والأمان، وأن الفكرة الصهيونية بإقامة دولة اليهود لتكون هي المكان الآمن له في كل العالم تَعرّت وأصبحت هذه الدولة أخطر مكان على اليهود، بل هي المكان غير الآمن لهم، لذلك كانت القرارات التي مورست عمليا على أرض الواقع تعكس الحقيقة المرة التي ستبقى تحيا في عقلية المستوطن، لدرجة أن طفل المستوطنة اصبح يحلم بمقاوم فلسطيني يخرج له من نفق تحت الأرض.

لم تتأخر القيادة السياسية والعسكرية والأمنية في إتخاذ خطوات تُحاول من خلالها إستدراك ما حدث، فقررت التعامل مع كل شيء ضمن مفهوم الوجود، والاستقلال الثاني، و”اسرائيل بنيامين نتنياهو” الجديدة بعد أن هدم طوفان الأقصى إسرائيل أل “بن غوريونية”، لذلك رأينا هذه الخطوات الوحشية التي اظهرت الكيان عصابة إجرامية مدعومة بشكل لا لبس فيه من صانعيها الإنجلوساكسونيين، يذكر أن البروفيسور يهوشع ليفوفيتش قال بعد عام 1967 “هذه الإنتصارات المؤقتة ستحملنا من نزعة قومية صاعدة إلى القومجية المتطرفة ولنصل الى المرحلة الثالثة وهي الوحشية، وفي االمرحلة الأخيرة ستكون نهاية الصهيونية”، وحيث أن الوحشية أصبحت عنوان هذا الكيان وأحد أهم ميزاته الجديدة التي ترعاها حكومة متطرفة ميسيانية، فإن هذا الكيان بعد أن كشف عن حقيقته الإجرامية أصبح في الفصل الأخير كونه حول الصراع بعد الطوفان إلى صراع وجودي صفري، جريدة هآرتس تحدثت عن الوحشية التي أصبحت تُشكل كتلة سرطانية كون أنها “لم تعد محصورة في الهوامش أو المستوطنات أو البؤر الإستيطانية، بل تسللّت إلى صفوف الجيش والكنيست والحكومة”، لذلك رأينا تصريحات تصدر عن مسؤولين في النظام السياسي بدأت بحيوانات بشرية ولم تنتهي بضرب غزة بالنووي بل إستمرت تلك الوحشية التي أصبحت هي السائدة بين من فشل في أن يجلب الأمن لمستوطنيه من القيادة السياسية والقيادة العسكرية والأمنية.

إذاً الكيان دخل في معركة وجودية بسبب الطوفان وإستخدم ولا يزال قوة تُعبر عن طبيعته الحقيقية، ولكن الكثير يستعجلون تقييم ما حدث وإعطاء نتائج مطلقة إن كان من حيث تمكن الكيان من فرض أجندته على الفلسطيني والإقليم، أو من حيث الجانب المناقض الذي يرى بنهاية وزوال الكيان، لذلك أعتقد بأن أي إستنتاجات وبعد مرور عام على الطوفان وفعله قائم لن تكون مجدية وقد تؤدي بالتأكيد إلى إحباط عام، حيث أن التداعيات لا تزال قائمة ولم تنتهي بعد، وطبيعة تطورات هذه التداعيات يحكمها الميدان، ومع ذلك نستطيع الحديث عن بعض النقاط التي تُعتبر محسومة من وجهة نظري:

أولا- ظهور الوحشية والإجرام المنظم والعنصرية الذي ميّز دولة الكيان.

ثانيا- عجز واضح للمنظومة الدولية والقانون الدولي والإنساني في منع جريمة الإبادة التي تحدث أمام عينيه وتُبث عبر كل الفضائيات ووسائل التواصل الإجتماعي وبما يستدعي إعادة التفكير في طريقة عمل كل هذه المنظومة.

ثالثا- تأكيد على المؤكد بأن الولايات المتحدة وإمعتها من دول في أوروبا المنافقة وعلى رأسها “المانيا وبريطانيا وبعض دول اوروبا الشرقية” لا يمكن أن تكون بجانب الحق أو حتى بجانب القانون الدولي، بل تعتبر أن وجود الكيان فوق أي إعتبار قانوني أو إنساني.

رابعا- الكيان ينكشف أمام الرأي العام العالمي ويخسر معركته في هذا النطاق مما يؤشر لخسارة إستراتيجية سيكون لها أثر كبير في المدى المتوسط والأبعد، ووجوده كمتهم بالتطهير العرقي أمام محكمة العدل الدولية واتهام رئيس وزراءه ووزير دفاعه بجرائم حرب وغيرها الكثير يبدأ من طلبة الجامعات الأمريكية ولا ينتهي في المظاهرات المستمرة في الدول التي صنعت وأوجدت هذا الكيان، أدلة واضحة لا لبس فيها.

خامسا- القضية الفلسطينية تتصدر أجندة النظام الدولي وبحيث أصبح هناك تفكير جدي بضرورة حل الصراع وليس إدارته.

سادسا- إنكشاف العجز الرسمي والشعبي العربي عن القيام بواجبه في إنقاذ غزة من الإبادة والتطهير العرقي، بل للأسف هناك إرتهان كامل للإرادة الأمريكية التي تُعطل كل شيء وأي شيء قد يؤدي لوقف حرب الإبادة والإستيطان في الضفة ولاحقا التدمير الممنهج في دولة عربية ذات سيادة، دولة لبنان.

سابعا- عجز النظام السياسي الفلسطيني في أن يرتقي لمستوى الحدث الجلل الذي يتعرض له شعبنا في قطاع غزة وأيضا في الضفة، وبحيث أصبح من الأهمية بمكان ومن الضروريات إحداث تغيير جذري في طبيعته، لأنه بدل أن ينظر لما يحدث بإعتباره تهديد كبير على مجمل القضية الفلسطينية، يقوم بحرف البوصلة وتحت عناوين المسببات والذرائع لما يحدث، وليس للمسبب الرئيسي الذي هو الإحتلال وفقط الإحتلال.

ثامنا- ظهور محورين في المنطقة، المحور الإمريكي الإسرائيلي، ومحور المقاومة الذي تتزعمه إيران، وما بينهما ينتظر نتائج الصراع القائم بحيث تتحدد سياسته وفقا لذلك مع الأخذ بعين الإعتبار بأنه أقرب للأمريكي من أي شيء آخر، أي أنه يضطر للتعاطي بطريقة تخدم المصالح الأمريكية وليس حتى مصالح شعبه ودولته.

لا أريد أن أسترسل كثيرا في تعداد الكثير من الأمور التي حسمت بشكل واضح، ولكن وبسبب كون الطوفان قائم ويعمل بطريقة متسارعة، فيجدر بنا هنا الإشارة إلى أن أهداف محور المقاومة يجب أن تتلخص في جملة واحجة وهي “إفشال أهداف العدوان وخطط الكيان”، وهنا حين نتطرق لذلك نقول أن عبارة “نتنياهو” الذي يرددها دائما وهي “النصر المطلق”، تحمل في طياتها الكثير من الأهداف، وأعتقد أنه وضع لنفسه حد أعلى وحد أدنى، وهذه الأهداف هي عامة ومهمة للمفهوم الأستراتيجي لدولة الكيان، وخاصة تتعلق برؤية “نتنياهو”، وريث الملك داود، ونلخصها بالتالي:

أولا- سيطرة أمنية وضم في الضفة الغربية ومعازل للسكان، وإن أمكن الذهاب للحد الأعلى وهو تهجير الفلسطيني قسرا أو طوعي قسري.

ثانيا- سيطرة أمنية غير مباشرة على قطاع غزة بحيث يستطيع الجيش والأمن العمل في القطاع بحرية كاملة ومباشرة بطريقة أو بأخرى على معابره، وفي الحد الأعلى تقليص جغرافية القطاع بضم شمال قطاع غزة ومناطق عازلة ومعازل تحت مسمى المنطقة الإنسانية، وبما يؤدي ذلك للتهجير الطوعي القسري عبر تحويل كل القطاع لمنطقة غير قابلة للعيش.

ثالثا- سيطرة أمنية غير مباشرة على الجنوب اللبناني وبنفس الطريقة الغَزّية، وفي الحد الأعلى تهجير الكتلة الشيعية من الجنوب لإحداث تغيير ديموغرافي يبعد حاضنة المقاومة عن الجنوب، ويؤدي ذلك لتغيير معادلة التوازن بحيث يستطيع الكيان الدخول والخروج دون الخوف من رد من “حزب الله” وفق ما قاله “يعقوب عميدور” رئيس المجلس الأمني القومي السابق والمقرب من نتنياهو والمتحدث حقيقة بإسم اليمين.

رابعا- الوصول الى معركة إقليمية واسعة يتم جر الولايات المتحدة إليها بشكل مباشر وبحيث يتم خلالها ضرب المفاعلات النووية الإستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا هو حلم نتنياهو ومعه مؤسسة العسكر والأمن، لأن الذي يشكل خطر وجودي على إسرائيل هي إيران، ولم يكن أبدا طوفان الأقصى يشكل هذا الخطر، لكن السردية جائت لخدمة أهداف “نتنياهو” في حرب لا تنتهي، وحرب يريد أن تكون نتائجها صفرية، أي إحداث تغيير جيو سياسي في المنطقة.

لم أكن أريد الدخول في الخطط التفصيلية لحرب الجنون “النتنياهوهية” ومعه وزراءه المسيانيين، لكن النصر المطلق أصبح واضح، ففي حده الأعلى ضرب إيران ومفاعلاتها النووية وفرض معادلة جديدة في كل منطقة غرب آسيا يكون الكيان فيه السيد وصاحب النفوذ، أما حدها الأدنى فهو ضم الضفة الغربية وفرض ترتيبات أمنية وفق الرؤيا الأسرائيلية في غزة والجنوب اللبناني.

وبين الحد الأعلى والأدنى يأخذ “نتنياهو” دولة الكيان لصراع صفري قد يطول إذا لم يتم وقف تداعياته بالذهاب لتسويات تؤدي إلى إفشال كل هذه المخططات، وتفرض رؤيا القانون الدولي على الكيان نفسه وذلك بهدف إنقاذه مما هو ذاهب إليه، خاصة أن كل إنجازاته التكتيكية سوف تذهب سداً إذا لم يذهب الآن نحو التسوية والصفقات، ولن يستطيع تحقيق أياً من خططه بحدها الأعلى أو بحدها الأدنى، فالحل مع إيران يكون بالعودة للإتفاق النووي، والحل مع الفلسطيني واللبناني يكون بإنهاء الإحتلال لكل الأراضي العربية والفلسطينية، وكون هذا غير ممكن لأننا نقول بذلك إلى “نتنياهو” ومن يمثله إذهبوا للإنتحار، فهذا يعني أن المعركة ستطول والميدان سيكون هو القاضي الذي سيحكم، وعلى ما يبدو فقد طوق “نتنياهو” رقبته بحبلٍ في الحالتين، حالة التسوية أو حالة المعركة الطويلة.

الطوفان لم يقل كلمته بعد، لأنه تمدد ليشمل جبهات متعددة، وأصبح طوفانا إقليميا لأجل الأقصى والقدس، والأثمان والتكلفة الغالية التي تم دفعها حتى الأن في غزة والضفة وفي لبنان وعلى رأسها تقديم أغلى ما تملك المقاومة، الشهيد السعيد سماحة السيد حسن نصر الله ورفاقه وأحباءه الشهداء، لا يمكن أن تسمح للمخططات الصهيو أمريكية أن تمر في الإقليم، ولن تسمح للنصر المطلق الذي يعيش أوهامه “نتنياهو” أن يمر، لأن هذه المقاومة وشعبها يرفعون شعار “أرضيت يا ربي، فخذ حتى ترضى” و “هيهات منا الذلة”.