“لا صوت للعقل وسط صخب السلاح”، هذا شعار ابتدعته السياسة العربية منذ حروب القبائل، فالسيف أصدق إنباء من الكتب. ولكن ماذا لو صدقت الكتب والعقل وتعثر السيف؟ لا أحد يسأل لأن السيف المقدّس كان شعار العربي دوماً والذي أحدث خللاً هائلاً في المقاييس المعيارية للنجاح والفشل واختلت الأحكام.
الرئيسان السادات وياسر عرفات قاتلا وتمكنا من استعادة أرض، بينما الزعيمان التاريخيان صدام حسين وجمال عبد الناصر تسببا بإضاعة أرض، لكن المخيّلة العربية رفعت صدام وعبد الناصر ولم تتواضع في محاكمة السادات وعرفات. وقد يبرر قائل بأنهما استعاداً الأرض أو جزءاً منها باتفاق مع إسرائيل، فماذا عن نصر الله الذي أعاد أرضاً وبالقوة، لماذا لم تقدسه الذاكرة العربية؟ ولماذا يخضع لانتقادات ومزايدات؟
انعدام المعايير لدى الأمة اللامعيارية حسب وصف “انتوني نتنج” يقف وراء الفوضى في السياسة العربية وتشرذمها، لعدم قدرتها على التوافق على معيار محدد تحتكم إليه، وخلف فشل كل الحوارات والتوافقات الداخلية، لأن كل طرف يخترع معياره الخاص ويحتكم له، وقد يغيره في لحظة ارتباطاً بمصلحة أو لحظة عاطفية كان فيها الصوت العالي ووهج اللغة أكثر حضوراً من العقل.
مَن يستطيع أن يحاكم تجربة السلاح لدينا؟ إذا ما أخضعنا الأمر لكفاءة إدارته وللنتائج؟ مَن يستطيع أن يقول أن شعبنا في الضفة هو شعب أعزل، والحالات المسلحة مسلحة بإرادتها فقط وبعض قطع السلاح الخفيف الذي لا يستطيع مواجهة الجنون الإسرائيلي، وبين قول كهذا وقول محلل عسكري أول من أمس على قناة الجزيرة، حين بدأت إسرائيل تتحرك باتجاه مخيمات شمال الضفة قال “إن المقاومة في الضفة متمرسة ومدربة وقادرة على إلحاق الهزيمة بالعدو” …! وبين كلام العقل وبين كلام المحلل العسكري الذي تحبه الأذن العربية بغض النظر عن النتائج ينهزم العقل وتخترع المخيّلة تبريراتها على نمط ضرورة رفع المعنويات والتسويق للهزيمة، هكذا تختل القواعد ويتسع النقاش حد الصراع ليبدو بلا جدوى.
لنعُد لأساس الصراع بين الفلسطينيين وبين إسرائيل، فهو صراع بين شعبين على هذه الأرض، وامتلكت إسرائيل كل مقومات القوة لتنفيذ مشروعها، ومازالت تلاحق الفلسطيني الذي تشبث بأسنانه رغم ما تعرض له من سحق وإبادة على امتداد العقود الماضية، وهنا الحلقة المركزية في الصراع الوجودي على الأرض ومزاحمة إسرائيل، والحيلولة دون توفير مناخات التهجير الذي يحظى بإجماع إسرائيلي منذ بيرل كتسلنسون الزعيم العمالي البارز في الحركة الصهيونية مطلع أربعينات القرن الماضي قبل إقامة إسرائيل، وقد بلغت “انسانيته” حد التفكير بتوفير وسائل نقل مريحة تنقلهم لصحراء العراق حتى لا يموتوا في الطريق كما في رواية غسان كنفاني التي جاءت بعد عقود من فكرة كتسنلسون.
إذاً الفكرة في البقاء على الأرض، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا تتعالى أصوات التحذير من مشاريع التهجير بعد أكثر من ثلاثة أرباع القرن وفي هذه اللحظة بالذات؟ فقبل ربع قرن كان الحديث بزخم عن حق العودة إلى الدرجة التي سيطر فيها للحظة على النقاش العام في إسرائيل، مترافقاً مع بروز حركة المؤرخين الجدد، وبعد أن وصلنا لتلك النقطة لماذا نعود للخوف من التهجير، وقد يتراءى أمامنا شبحه مع ما تفعله إسرائيل في غزة وانتقل الآن للضفة الغربية؟
بين انتفاضة فلسطينية شعبية حشرت إسرائيل أمام العالم واستدعت تعاطفه لتبحث اسرائيل عن حل … انتفاضة أسقطت علم اسرائيل من سرايا غزة ورفعت مكانه علم فلسطين، وبين انتفاضة مسلحة تقضي على حلم الفلسطينيين الوحيد بالمطار وتعيد سيطرة اسرائيل وحواجزها واجتياحاتها فرق كبير، ولكن مَن يجرؤ على المراجعة لأن فيها ما يستدعي مراجعة السلاح وكفاءة إدارته وحصاد النتائج، فالنتائج حسب إحدى مدارس السياسة هي التي تحدد نجاعة الفعل… تلك مقاييس السياسة التي لم يمارسها العرب بعد، لأن لهم معاييرهم الخاصة المتحركة وفقاً للمصالح والمنافع والمنطقة التي يقفون فيها، وهكذا فقدنا الإجماع والمسطرة التي نقيس عليها، فتعثّرنا وتعثرت أهدافنا.
البقاء هو الهدف الأكبر أمام نية معلنة لطرد وتهجير الفلسطينيين كيف يمكن أن يتعزز؟ الحكومة الإسرائيلية الحالية ومن قبل أن يدخلها سموتريتش كانت تعرض صفقة القرن التي تعني الضم والطرد، لكن القائمين الآن على النظام السياسي أكثر فجوراً في الإعلان، القلق ينتاب الجميع على الضفة رغم فداحة ما يحدث من إبادة في غزة، كانت دعوة العقل بالحذر هناك وعدم تقديم المبرر لإسرائيل، فتجربة غزة ماثلة وتعطي ما يكفي من الدروس، كان يجب تجنّب اللعب في الملعب الإسرائيلي الآن بالذات.. ملعب السلاح، لأننا شعب أعزل يطالب بالحماية ولا يستطيع بكل ما يملك من قوة أن يحمي نفسه، لا في غزة ولا الضفة، لا القوى ولا السلطة. وأفضل ما كان يمكن أن تفعله الضفة هو انتفاضة شعبية وتظاهرات في الشوارع والساحات.
غزة غرقت ونزحت ويسكنها هاجس التهجير، وحكومة إسرائيل لم تخفِ نيّتها بإنهاء السلطة في الضفة، ليس لشخوصها بل لإنهاء الرمزية الفلسطينية في أرض تعتبرها “أرض التوراة اليهودية” في أصعب الظروف تحاول أن تمنع غرق الضفة حتى لا يتوفر لإسرائيل مبرر كما فعلت بغزة، تلك معادلة تنهار أمام المعايير المختلة وهزيمة العقل…. قلت للأصدقاء في الضفة الذين طالبتهم بالتعقّل والانحناء أمام العاصفة كي يبقوا على الأرض “كونوا أكثر حكمةً في إدارة البقاء” هذا هو الهدف الأول والأخير، وهذا هو المشروع الوطني، وتلك هي الفكرة، وهي التي تحدد وسائلها لا العكس.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0