توقفت كثيرا امام مقال “الامريكان لا أوفياء وفعلا اغبياء” للإعلامي المصري عماد الدين اديب وتذكرت كتاب لعبة الأمم لمايلز كوبلاند الصادر سنة 1969، والتي تدور احداثه بين الأعوام 1947 و1976.[1]
يتناول مقال أديب المهم ضرورة قراءة “معنى التخلي الفوضوي الغبي الأداء” للأمريكيين عن حليفهم الافغاني لحلفاء واشنطن العرب. يناقش اديب “ثلاث مستجدات يمكن استخلاصها من سقوط كابول: أولا، إدارة بايدن هي استمرار عقائدي لإدارة أوباما، ولكن بأداء أكثر سوءاً، وبتنفيذ أكثر ارتباكاً. ثانيا: مواجهة الصين وروسيا هي الأولوية الاستراتيجية الكبرى، وليس الشرق الأوسط. ثالثا، الأقوياء، الذين يمكن الاعتماد عليهم في إدارة ملفات المنطقة، هم إسرائيل، تركيا، وقريباً إيران ..لأنّ إدارة العالم العربي من الآن فصاعداً سوف يلزّمها الأميركيون إلى قوى غير عربية هي تل أبيب وأنقرة وطهران.”[2]
قد يقول قائل، ما الجديد؟ فالأمر بالفعل بهذا الوضوح، ولكن المشكلة هي بعدم استخلاص العبر.
وهذا ينسحب على الشأن الفلسطيني الذي لم يعد الا شأنا فلسطينيا منقسما الى أجزاء كثيرة، اكبرها قد يبدو اليوم انتخابات نقابة المهندسين، الذي حصلت فيها المهندسة نادية حبش على منصب النقيب بكتلة انتخابية مع حماس. تحالف للجبهة الشعبية وحماس يبدي انفتاحا سياسيا وتقدما بخطوات استباقية بتغيير الواقع المتصلب على الأرض ولو لغرض التكتيك وانتخابات نقابية – او ربما نشهد تغيرا ممنهجا في إطلالة حماس المستقبلية-.
لنا ان نتخيل، ان انتخابات نقابة تبدو حدثا جللا، لأن الانتخابات تجري فقط إذا ما تمت ضمانة فوز الحزب الحاكم- فتح- في أي انتخابات، وفرضية الخسارة او احتمالها يلغي الامر تماما كما يتدرج الامر وصولا الى الانتخابات التشريعية والعامة.
الحديث مؤخرا عن احتمالية اجراء انتخابات مجالس محلية في عملية الهاء جديدة للمجتمع الدولي ولنا على الهامش، يبدو كذلك صعب المنال، لأن فوز فتح بعيد المنال.
اليوم، الكل ينظر نحو الانتخابات – أي انتخابات- وكأن الشعب دخل في حالة صحوة- اظنها كصحوة مريض الموت مؤقتة، ولكنها مفزعة- لا أقول هذا لأني متشائمة، ولكن لأني واقعية. فلحظات يقظتنا كشعب ليست الا لحظية.
وهنا، أفكر بمقال اديب، كلامه بهذا الوضوح، إذا ما كان هناك عاقل في السلطة الفلسطينية بشقيها للتعلم من هذا الدرس التاريخي المعاصر. صحيح انه لا طائرات ولا مطار يهرب منه أصحاب السلطة، مما يجعل نهاية السلطة أسهل، فالأمثلة من العقد الأخير كثيرة، لنا ان نتخيل أيا منها، فماذا لو ابتكرنا كل حالات الغضب التي ترسبت بداخلنا وانفجر ذاك ربيعا عربيا على أصحاب هذه السلطة التي تأبى التعلم لثقتها بحليفها الأمريكي الحالي، او “الحليف”الإسرائيلي الذي يتغنى الرئيس الفلسطيني او يهرول من اجل ارضائه ( لقاء عباس وغانتس الأخير- اشبعه الاعلام الإسرائيلي سخرية)؟ مما يجعلني أتساءل، هل انتهى العداء لإسرائيل؟
طبعا، ثقة اهل السلطة، كثقة حكام الأفغان الفارين بأن امرا لن يتغير، وانهم مدعومون بالمال والعتاد بما تيسر من أمريكا من اجل السيطرة على مكانهم من خلال افسادهم أكثر وقمعهم البوليسي لشعوبهم أكثر وانبطاحهم لإسرائيل اكثر. يشدون حبالهم تدريجيا لخلاص قريب بالتأكيد. حبال لن يشدها الشعب بالضرورة، ولكن بحلفاء جدد يحملون رايات الله حجة كما طالبان وغيرها.
المرعب في هذا المشهد ان فلسطين كلها لا تشكل حجم شارع وحي في أحسن احوالها من هذه الدول كأفغانستان وغيرها. فطالبان استطاعت ان تختبئ بالجبال والصحاري وأحيانا دخلت عمق المدن كما نرى الان. ولكن طالبان التي ستخرج في فلسطين من بيوتنا، ستأخذ شكل ميليشيات يتم تنظيمها بطريقة القبيلة والحزب وكبير العائلة وشيخ الحارة او مختارها. لأنه وتأكيدا يأتي قول اديب ان “لا مانع عند فريق بايدن أن يتم استخدام الميليشيات… ودعم سياسات “التلزيم” الآتي لملء فراغ التخلّي الأميركي عن الوجود المباشر في المنطقة، هو الرهان على الأقوياء على الأرض الذين يسيطرون على الفوضى والمصالح والحدود والأراضي….ولتحقيق هذه السياسات يراهنون الآن في واشنطن على أدوار قطر وتركيا وإثيوبيا.”[3]
أي ان أمريكا بايدن، تعود لتخرج ملفات إدارة أوباما- كلينتون التي استخدمت الإسلام السياسي كذراع لها في المنطقة. يقول اديب: ” مرّة أخرى يُعاد تسويق الرهان على الإسلام السياسي لخلق ربيع عربي جديد،… سيكون بالرهان على تأهيل وتدريب وتسويق إسلام سياسي بعيد عن سوء الإدارة والتوحّش في الأداء. مطلوب الآن ” نيو طالبان” و”نيو حرس ثوري” و”نيو حوثيون” و”نيو شيعة” و”نيو إخوان مسلمون” و”نيو نهضة”.”[4]
يرى اديب ان ما تحاول أمريكا تطبيقه هو تصور ساذج وانتهازي، وكذلك “قمّة في الجهل بقانون الفعل وردّ الفعل، وحقيقة الأصول الفكرية لتنظيمات الإسلام السياسي وجذورها وهياكلها وموروثها العقدي.”[5]
وهنا اختلف مع اديب، حيث لا يتطرق الى ما بعد “مخططات أمريكا الساذجة والفاشلة”. نحن الشعوب. لن أقول السلطات والحكومات، لأنها تتحرك وفق ما تريده أمريكا أصلا. السذاجة بنا كشعوب لا تزال تصدق ان الحركات المناهضة منذ الاخوان المسلمين (1928)، الثورة الإسلامية الإيرانية (1979)، الى طالبان (1994)، ، الى داعش بأسمائها المختلفة وتشعباتها منذ أبو مصعب الزرقاوي (1996) حتى البغدادي (2013) تتلاقى برفع شعارات تطبيق مفاهيمها الخاصة للشريعة الإسلامية، تعادي الغرب بالعلن، وتتمول منه بالعلن والخفاء، وكلها تسعى لإقامة امارة او دولة خلافة مهما اختلفت توجهاتها وتعدد او تغير تمويلها (إيران- تركيا- قطر وأذرعها) فإنها تصب في عقل مخطط واحد: أمريكا.
بالمحصلة، تخطط أمريكا وحلفائها للحكام والمعارضة -الإسلامية- بالشرق الأوسط.
ما يحدث اليوم ليس أكثر من امتداد وتكملة للعبة الأمم التي لم يعد الاستثمار في محورها مبنيا على نوستالجيا الثورة العربية الكبرى والقومية بما يناسب خيالات العقل العربي بأمثلة يمكن تخيلها وتصنيعها بسهولة، ولكن بالتأكيد بأقل جودة وابهارا من السابق. تحتاج أمريكا اليوم الى نيو طالبان واخوان وغيرها الى تلوين أكثر، الى مكان تنصهر فيها الاضداد: القومية العربية والخلافة الإسلامية. الامريكان في نهاية كل مطاف “بحاجة الى حاكم يستطيع ان يضفي على نفسه صفة القدسية والإنقاذ. او على حسب الظروف الى حاكم يرفع شعارات اضيق ومفاهيم ابسط. وعلى هذا الحاكم ان يتمتع بشيء من قوة السلطة وسحر الشخصية. ليتمكن على الأقل من السيطرة على مجموعة من الرجال تتمكن مجتمعة من إدارة دفة الأمور في البلاد.”[6]
أفكر بهذه اللحظات وأقول في نفسي، أفضل ما يمكن تشكيله اليوم وابرازه من نماذج هو شخصية كزعيم داعش البغدادي، يمكن ان تلتحي وتحلق. يمكنها ان تلبس العباءة والعمامة وكذلك بدلة بماركة إيطالية باهظة، على حسب طلب الدعاية وفي كل بلد على حسب جمهوره (بدلة للجمهور الغربي وعباءة للجمهور المحلي وهكذا…) لأن نموذج كارزاي لم يعد نافعا.
من اين لهم ان يأتوا بنموذج مثقفي القرن العشرين؟ ولقد انحرف المثقف كما حذر ادوارد سعيد “خطر انحراف المثقف المحترف نحو مجاراة السلطة، بالتالي التنازل طواعية عن هوامش التحرر المعتادة المرتبطة بحس الهواة.”[7]
ومرة أخيرة، أقف هنا في فلسطين، وأفكر بموقعنا ببقعة الشرق الأوسط المتشرذم، ان كان لنا حظ أصلا في هذه اللعبة. فالبحث الجاري في لهوهم بفلسطين لا يتعدى أحد الغلمان في اساطير طالبان وداعش، او عنصر من مخلفات العساكر المنهزمة يلبسونه الاوسمة والنجوم ويجلسونه على موائدهم بضع مرات ليبعثوا بهم حلم التحرر الجديد.
وهنا ارجع لسؤالي المركزي: هل يتوجب “الوفاء” من أمريكا لحلفائها؟ هل هم اغبياء بالفعل؟ ام نحن شعوب لا تستيقظ ابدا من سباتها؟
أجل… هم اغبياء، ولكننا أكثر غباء بالتأكيد.
[1] مركز “لعبة الأمم” هو النشاط الذي بدأته وزارة الخارجية الامريكية في واشنطن من اجل وضع مخططات مناسبة لبسط النفوذ الأمريكي على العالم عن طريق السياسة والخداع بدل اللجوء الى الحروب المسلحة. وهو التخطيط السياسي للصراع على النفوذ بالعالم عن طريق الحرب الباردة، بحسب ما يتناوله الكتاب.
[2] عماد الدين اديب: “الأمريكان.. لا أوفياء وفعلاً أغبياء”
http://www.asasmedia.com/news/390081
[3] عماد الدين اديب: “الأمريكان.. لا أوفياء وفعلاً أغبياء”
http://www.asasmedia.com/news/390081
[4] المرجع نفسه.
[5] المرجع نفسه.
[6] المرجع نفسه.
كاتبة فلسطينية
http://nadiaharhash.com