بات واضحاً أن حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية تتمسك بعدم إنهاء الحرب في غزة، بالمعنى الذي نفهمه كفلسطينيين، والذي ينسجم مع مشاريع هذه الحكومة التي بدأت في تنفيذها بالضفة قبل ٧ أكتوبر. وهناك واقع ومعطيات سياسية وقانونية يتفق حولها العالم، ويقر بموجبها بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، ويفسر حالة التعاطف العالمي الواسع معهم طوال أشهر الحرب الماضية. ماذا يستطيع الفلسطينيون أن يفعلوا إنقاذاً لأنفسهم ووطنهم وتخطي هذه المعضلة.
لم تعد خطة نتنياهو في غزة والضفة خافية على أحد، بل إن نتنياهو بات يعتقد أن الفرصة مهيأة له لضرب القوة النووية الإيرانية، بعد أن تقلصت الأخطار المهددة له القادمة من لبنان وسورية. وليس من المستبعد أن يستكمل نتنياهو معاركه في المنطقة، ليوازن بذلك معادلات الصراع فيها لصالحه. ومن غير المتوقع أن يقف دونالد ترامب الرئيس الأميركي القادم ضد مخططات نتنياهو في المنطقة، بل على الأرجح أن يبدأ ترامب عهده الرئاسي بحسم قضايا عالقة بدأها نتنياهو قبل وصول ترامب إلى الحكم.
وضمن المعطيات القائمة على الأرض، ليس من المتوقع أن يتنازل نتنياهو بإرادته عن السيطرة الأمنية الكاملة في قطاع غزة بعد الحرب. ويجب التذكير أن الاحتلال كان يسيطر أمنياً على القطاع قبل انسحابه منه في العام ٢٠٠٥، من خلال تقسيم القطاع، وتواجده على مفاصل معينة داخله وعلى حدوده، ليضمن الرقابة المستمرة والتدخل وقت الحاجة، تماماً كما يحدث، اليوم، في الضفة الغربية، ضمن واقع أشد تعقيداً. فقد حددت حكومة نتنياهو الحالية أهدافها في الضفة الغربية، وبدأت في تطبيق سياساتها لتحقيقها، قبل ٧ أكتوبر. وليس من المتوقع أن يقف ترامب حجر عثرة أمام نتنياهو وحكومته لتحقيق مخططاتها في غزة والضفة، وهو الذي دعم ضم أجزاء من الضفة في صفقة القرن التي رفضها الفلسطينيون. وإن تهديداته لغزة قبل وصوله للحكم تشي بنواياه.
ويبدو أن الفلسطينيين أمام مستقبل غامض ومعقد، يستدعي استثمار جميع المعطيات الإيجابية، وتحييد تلك السلبية، التي يستخدمها الاحتلال ضدهم، لاجتياز ظروف قادمة صعبة بأقل الخسائر الممكنة، فحرب غزة ليست هي قلب العاصفة، بل مجرد بواكيرها فقط. لعله من المفيد القيام بمراجعة سريعة للمواقف السياسية والقانونية التي نجح الفلسطينيون في تحقيقها على مدار عقود. ويتوجب هنا تحديد معطيات الواقع على الأرض في فلسطين، ودور الدبلوماسية والوساطة في ظل دعم أميركي مطلق لإسرائيل.
قد يكون المعطى الإيجابي الأهم هو الواقع الموجود في فلسطين. فرغم حالة الاحتلال التي يخضع لها الفلسطينيون بالقوة العسكرية منذ عقود طوال، إلا أنهم يشكلون واقعاً موجوداً راسخاً على أرضهم، ولم تفلح جميع المؤامرات منذ نكبة العام ١٩٤٨ في نفيهم. كما أن ترسيخ التمثيل الفلسطيني الموحد والثابت، الذي بدأ مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ولا يزال موجوداً حتى اليوم، يعد أساسياً في مواجهة التحديات التي يواجهها الفلسطينيون، اليوم.
فمنذ دخول منظمة التحرير الفلسطينية للأمم المتحدة كحركة تحرر وطني تمثل الفلسطينيين الذين يرزحون تحت نير الاحتلال في ستينيات القرن الماضي، سجل الفلسطينيون أول نجاحاتهم على الصعيد الثلاثي، السياسي والقانوني والدبلوماسي، في المحافل الدولية، والذي تواصل عبر السنوات بتطوير مكانتهم في تلك المنظمة الدولية وعلى صعيد اعتراف مزيد من الدول بالتمثيل الفلسطيني الرسمي. فتقدم الفلسطينيون خطوة في العام ١٩٨٨ عندما أعلنت المنظمة قيام الدولة الفلسطينية من الجزائر، واعتراف الأمم المتحدة بتلك الخطوة. كما حصل الفلسطينيون على تطور جديد في مزايا التمثيل في العام ١٩٩٦، بعد توقيع معاهدة أوسلو. إلا أن الخطوة الأهم كانت الإقرار بمكانة فلسطين كدولة، من قبل المنظمة الدولية الأهم في العالم في العام ٢٠١٢. وهو ما يفسر بعد ذلك انضمامها لجميع المعاهدات التي تشترط وجود صفة دولة لعضويتها، بما فيها نظام روما الأساس الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة للعديد من المنظمات الدولية الأخرى. إن التطور التدريجي في مكانة فلسطين في الأمم المتحدة، وفي جني مزيد من الاعترافات الدولية، التي رسخت مكانتها السياسية والقانونية والدبلوماسية، بصفتها دولة خاضعة للاحتلال لا يمكن أي جهة في العالم إنكار تلك الحقائق، بما فيها تلك الدول الـحليفة لدولة الاحتلال.
اليوم، هناك حالة احتلال واضحة في فلسطين، تبدو جلية في الضفة وتخطت ذلك لحرب إبادة في غزة. والواقع أن دول العالم رغم إقرارها بحقيقة ذلك الواقع لا تتدخل بشكل حاسم، وليست مستعدة للصدام مع الولايات المتحدة، لنصرة الفلسطينيين عملياً على الأرض، بعد أن أرست الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون معادلة لحماية إسرائيل ووجودها في المنطقة، وحيدت أي عوامل من شأنها خلخلة تلك المعادلة. كما أن الأمم المتحدة، المنظمة الأممية التي وجدت لتحقيق الأمن والسلم الدوليين، تعاني من خلل يتعلق بنظامها، الذي ربط تحقيق أهدافها العادلة بالإرادة السياسية للدول الأعضاء الخمس في مجلس الأمن. أن هذا يفسر السبب في عدم تحقيق العدالة في الحالة الفلسطينية، رغم إقرار الأمم المتحدة بعدالة هذه القضية في قراراتها وبياناتها، ونجاحها في التحرك إيجابياً في قضايا أخرى. وأخيراً، ورغم أن القضاء الدولي ممثلاً بالمحكمة الجنائية الدولية تحرك ووجه اتهامات لقيادة دولة الاحتلال، إلا أن القضاء الدولي الذي يرتبط تطبيقه بالإرادة السياسية الدولية، ويخضع للمساومات والمصالح والعلاقات بين الدول، لا يمكن التعويل عليه بعد في الحالة الفلسطينية، حيث يتوجب على الفلسطينيين بذل جهد مضاعف لإقناع الدول الأعضاء فيها.
في إطار تلك المعطيات السابقة، مطلوب من الفلسطينيين، اليوم، وفي محاولة لمواجهة خطر يتربص بهم جميعا وبقضيتهم الوطنية أن يقفوا موحدين تحت سقف واحد، السقف الرسمي، الذي يقر به العالم، وتحييد جميع الخلافات والمسميات والانقسامات، حتى وإن اختلفت معه. وعلى الممثل الرسمي الفلسطيني أن يحتضن الفلسطينيين جميعاً الآن في غزة وفي الضفة، وفي أي محفل دولي آخر، ضمن منظومة منسقة داخلياً، وترتيب البيت الفلسطيني لمواجهة أي طارئ أو تحديات تهدد القضية الفلسطينية.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0