لم أكن أتخيل أن هناك إنسانا قد يموت بسبب البرد، وحين قرأت قصة «بائعة الكبريت» في صغري كنت اعرف وعلى صغر سني أن الشاعر والأديب الدنماركي «هانس كريستيان أندرسن» في قصته التي كتبها في العام 1845 قد بالغ في وصف نتيجة البرد الذي تعرضت له الطفلة الصغيرة، وانه كان يريد أن يصور قسوة العالم ووحشيته اتجاه طفلة بريئة، فهو في نظري ظل مبالغا وهو يضع نهاية هذه الطفلة وهي الموت بردا، ولكن الحرب على غزة التي تستمر وتدخل عاما جديدا ضمن عداد الأعوام قد أثبتت لي أن الإنسان قد يموت بردا ويحدث ذلك للكبار والصغار، وان العالم ليس متوحشا ولا قاسيا في القصص والروايات لأن وحشيته في الواقع اكبر وافظع، ولأن صمت العالم اكثر وحشية وقسوة من اليد التي أوصلت أطفالنا إلى الموت بردا وألقت بهم في الخيام التي لا تقي من البرد ولا الحر، والحقيقة إن أطفال غزة وأهلها، كبارا وصغارا، يعيشون بالمعنى الحرفي في الشوارع وتحت السماء فقط ولا يلتحفون غيرها ويمشون على ارضها.
فلا يمكن أن تطلق على الخيام المهترئة مسمى خيام، ولا يمكن أن تطلق على بضعة أعمدة من الخشب البالي الذي تشقق بسبب كثرة دق المسامير وخلعها مع بعض النايلون أو القماش أو حتى المشمع السميك لا يمكن أن تقول، إن هذا الشكل قد انتج خيمة، لأنه في الحقيقة قد انتج وصمة عار جديدة يجب أن توضع على جبين الإنسانية في كل أنحاء الأرض.
ماذا تعني الخيمة وماذا يعني أن تكون قابعا بجسدك المنهك والمتعب الذي يتداعى يوما بعد يوم مثل بيت قد صدر قرار بإزالته لخطورته على البيوت المجاورة؟ فجسدك لا يحصل على غذاء مناسب ولا يحصل على راحة ونفسك معذبة وحائرة وخائفة ومضطربة وفوق ذلك يضعونك بين بضعة أعمدة من الخشب المحاطة بخرق بالية، وان أحسنا التخيل فربما كان بعض هذه الأعمدة محاطا بقطع من النايلون أو البلاستيك السميك ولكن في كل حال لا يمكن أن تطلق على هذا المسمى اسم خيمة ولا يمكن أن تتخيل ولو للحظة واحدة انه قد يكون بديلا مؤقتا عن البيت بمعناه وإحساسك به وإحساسه بك، ولو كانت الخيمة بهذا الشكل تصلح لأن تحمي الإنسان وتوفر له الراحة لما كان الإنسان ومنذ القدم يجتهد لكي يغير من شكلها ولما انتقل من شكل إلى آخر في طريقة السكنى بدءا من النوم فوق أغصان الأشجار هربا من الوحوش مرورا بسكناه للكهوف العميقة الموحشة ثم توصله لطريقة بناء خيمة بما توفر لديه من إمكانيات، ولكنه لم يتوقف عند ذلك حتى وصل إلى بناء البيوت الإسمنتية ذات الاسقف المتينة والجدران الصلبة والأرضيات الملساء التي فوق ذلك كله تضمن له الخصوصية والراحة وتجمعه مع عائلته وهي أغلى ما يملك في هذه الحياة.
اليوم، اصبح بإمكانك أن تصدق أن هناك من يموت بردا، فقد مات الرضع في غزة ومات الرجال وكل يوم سوف نسمع عن ميت جديد وسبب الميتة هو البرد، وهذا السبب ولسوء طالعنا سوف يضاف لأسباب كثيرة وصور منوعة من الموت في غزة التي جربها أهلنا وأحبتنا وحرقت قلوبنا وأقضت مضاجعنا، واليوم فقط وبدءا من هذا الموسم الشتوي الجريء عليك أن تتخيل الموت بردا كطريقة جديدة تكشف لك قبح الصمت المطبق على ما آل إليه حال أهل غزة، وان الأصوات التي تنادي بإنقاذ غزة قد أصبحت خابية أو أنها لا تسمع لأن الصراخ ما زال مستمرا وهل يملك هؤلاء البائسون المرجفون الجائعون التائهون غير الصراخ، صراخ الظلم الذي ينطلق إلى رب السماء ويؤجل القصاص إلى حين ولكن هناك قصاصا يوما وهناك لعنة سوف تطارد كل من صمت وتخاذل وتآمر على أهل غزة الكرام الأعزاء الذين كان أطفالهم وعلى صغر سنهم الذين يموتون، اليوم، بأبشع طريقة وهي الموت بردا كانوا بشارة وكانت الحجارة بين أيديهم ولا يملكون غيرها ولكنهم كانوا قناديل، فمهما أبطأ التاريخ لكنه دائما ما يهوى القصاص وتدور دورته دورة كاملة الاستدارة.
هل لديك سؤال؟
تابعنا على السوشيال ميديا او اتصل بنا وسوف نرد على تساؤلاتك في اقرب وقت ممكن.