«حرير الغزالة» لـ«جوخة الحارثي» وأدوات الهارموني السردي

تتحول اللغة إلى مقاطع موسيقية، إذا كانت مصاغة برؤى مختلفة، تسير وفق هارموني يحمل التناسق في الطرح، والجمال في التعبير. وقد تشكل هذا المعيار الإبداعي في رواية «حرير الغزالة» للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، الصادرة عن دار الآداب للنشر والتوزيع 2021. فاشتغل الجرامافون السردي، معطيًا أصواتًا متغايرة، لكنها منسجمة في التقديم، متقنة في الأداء، فكان السرد والشخصيات والبناء الحراكي، وأدوات التشويق المصنعة، خليط الكاتبة، لإخراج هذا العمل.

في «حرير الغزالة» لا تبتعد الحارثي عن أجواء السرد ونمط اللغة في «سيدات القمر»، فقصصها الجزئية المتعددة داخل الرواية محملة بتحديات النساء في مجتمع يحاصرهن بكافة الأدوات والأشكال. كما أن لغتها المخاتلة تزيد عناصر التشويق للحدث التالي. والطريف، مقدرتها على صنع كاريزما خاصة بكل شخصية نسوية انبنى عليها هيكل السرد.

فكانت «حرير» تمارس سلوكها الشخصاني كشكل اعتيادي للمرأة المنضمة للسياق الاجتماعي، في حين طرقت «غزالة» باب البراح لتفكير متحرر، كما مارست رغبتها المجنونة في ملء حاجة المرأة للحب: «ربما يكون لكل إنسان حصة مقدرة من الحب».

تصميم آخر امتلكته شخصية مليحة، التي حرمتها الحياة من تفاصيل الأنثى المعتادة، ففقدت الزوج والنسل، والحب، وبقيت وحيدة تصارع مرضها، حتى صار الموت هو الخطة الأمثل لاسترداد استحقاقها، من أهلها، ومجتمعها. فهل يكون الموت هو المشهد الذي يرضي الإنسان في سيناريو ما؟ تجيب الحارثي في سردها: «ستنتزع بالموت كل السلطة التي لم تمنحها إياها الحياة، لن توجد على سطح الأرض جثة أسعد منها، حين يلتف حولها الناس الذين لم يلتفوا حول جسدها الحي، ولو كانت الجثث تضحك لما توقفت جثتها عن القهقهة، سخرية منهم».

حرية مفقودة

وتشاركنا الكاتبة صوت المرأة الممنوع من التصاعد للهواء، حتى ولو كان مجرد فقاعات، فيكون الشكل النهائي المعد لإحداهن، هامشًا، تتعلق من خلاله بزمن بطيء، مرساه الأخير الموت، لكن دون امتلاك قصة حقيقية، تعبر عن الذات: «لم تكن لها أي قصة، جردتها قصص الناس من قصتها الشخصية».

هذا التهميش، هو السطو المشين الذي يمارسه المجتمع متكاتفًا ضد المرأة التي تخضع مجبورة لحركته الرتيبة على الروح والوعي. فيكون أبسط الحقوق الذي تتوق له المرأة هو نيل حريتها، ورسم خارطة خاصة بها للحياة.

تفاصيل هشة

ويمكن فلسفة الأفكار التي انطلقت إليها الحارثي، بإسقاط نهج الاستهلاك الاجتماعي من قبل العائلة العربية، إذ تقوم بقطف ثمرة الأنثى في سياقها التابوهي، دون العدول عن التحجر الاجتماعي، ومواكبة الحاضر العالمي، فالمرأة هي الأناناسة التي تحدثت الحارثي عن استهلاكها من قبل البشر، بعد الجهد المطول الذي تبذله الشجرة في صناعتها. تكتب الروائية: «لا أتمالك نفسي في شجرة الأناناس التي استغرقت ستة أشهر لتصنع أناناسة واحدة، أكلتها أنا في بضع دقائق، كل شجيرة أناناس لا تصنع أكثر من ثمرة واحدة في كل مرة». والمرأة هي الغزالة الضعيفة المستباحة في طريقها الممتلئ بالعوائق، محيطها الغابة القاسية، التي تنهش هويتها، وتمسح تفاصيلها الهشة. جسر وهميفيما تستند الرواية إلى حوار سري، يتسم بالنقد والملامة من قبل الحارثي، للنساء اللواتي يرضين بجسر وهمي مع الحياة، إذ يكون الرجل عندهن هو المسار المتخذ نحو تشكيل الذات، وهو النواة لصناعة علاقة جدية مع الحياة، وبمجرد زواله، أو إصابته بالعطب، تتكسر معادلة الحياة لديهن، تكتب الحارثي: «شابات يستمدن الثقة من شيء واحد فقط، كونهن متزوجات، لا يكترثن إن كان الزوج بخيلا أو قاسيا أو خائنا أو متعصبا، وإنما بحقيقة أنهن يحتفظن به».

ولأن البنية الاجتماعية غالبًا ما تسوق الفتيات إلى مسار وحيد، يعلق مصيرهن بعُقَد الرجل، وتركيبته السلطوية، فإنهن على موعد مع الألم السيزيفي، والعثرات الدائمة، في مواجهة العُقَد الذكورية، ألم يدوم حتى النهاية… «إن دخلت في علاقة مع رجل معقد، فستقضين عمرك تتعثرين بعقده، من دون أن تصلي يوما إلى فك إحداها».أصوات مختلفة

فيما تستخدم الحارثي ثيمة الفلاش باك، كأدوات جمالية في طرق وتجسيد نصها، إذ تعطي ملخص الحكاية كسرد مسبق للتفاصيل التي تأتي تباعا، كطريق لتفسير الأحداث.

كما وتفتح البوابة للمزيد من الأصوات السردية خلال نثرها، كأداة لتعددية الرؤى، حين تعطي المايكروفون السردي تارة لشخصية «حرير» لتعبر عن نظرة المرأة المنمطة ضمن السياق الاجتماعي في علاقتها مع رجل جدي ملتزم برؤية المجتمع للحياة. وأخرى لغزالة التي تبحث عن رجل مختلف، يضع العاطفة والتجريب في مقدمة خطاه نحو الحياة. ومرة ثالثة، إذ يتدخل دور الراوي المعلق على الأحداث، الذي يشتق المعنى، ويثبته في طريق السرد. بهذا كله لم يغب منبر حواري شيق، تصعد الشخصيات إليه، لتنقل صراعًا فكريًا ديالكيتيكيًا، يزيد من زخم ووجود الأفكار.

نساء الحارثي امتلكن الغرابة والتمايز، وهو ما ينقل النص الروائي لمنطقة البحث والتحليل والتأويل المعمق. كما أن اللغة السردية للعمل جاءت لينة محتوية لتفاصيل محسوبة على جوانية المرأة.

فاخترقت الكاتبة الحاجز السري لنساء كثيرات، بحس أنثوي ناضج، يرمي إلى المزيد من هدم الجدران حول المرأة العربية، وكذلك المزيد من الفهم، وتفكيك شخصيتها اجتماعيًا، وتقبلها على ذلك.تقول الرواية:

«غزالة التي هي ليلى، لكن بلا قيس، هي الغزالة ولكن بلا ساقين للهرب، التي هي سمكة، ولكن بلا قدرة على التكيف تحت ماء الحياة، تضع طاقتها كلها في ذراعيها وساقيها وتسبح، تستلقي على الموج لتحدق في السماء السوداء، ترى النجوم التي قد تكون ميتة الآن، ولكن نورها ما يزال يصل، لينادي روح الغزالة».