| «صلاح» أقدم حرفي بقرية الفواخير: فقد عينه وإصبعه في المهنة «عشق لا ينتهي»

عشق خلط الطين بالماء منذ نعومة أظافره، شب على وضع قدميه على قطعة دائرية يحركها بحذر شديد أثناء التفاف يديه حول عجين الطمي في حركة أشبة بعزف سيمفونية موسيقية، لكن نتيجتها ليس فنًا مسموعا بل منتجات ملموسة تبهر الأبصار، شاردًا أحيانا في صناعته التي أصل كل شئ وتوارثها عن أجداده، مرددًا دائما قول الله تعالى في كتابه العزيز«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ».

أقدم حرفي في قرية الفواخير: مدخلتش مدارس.. ومعرفش غيرها 

53 عاما قضاها العجوز صلاح محمد في حرفة الفخار منذ أن كان بعمر 8 سنوات، حيث لا يعرف طريقا للمدارس أو التعليم، وجد نفسه منذ الصغر يعمل في صناعة والده وأجداده، شاهدا على المهنة منذ البداية حتى طالتها يد التطوير بقرية الفواخير بمدينة الفسطاط، متذكرا خلال حديثه مع «»، كيف تسبب الجهل والطرق التقليدية في خسارة أحد عينيه عندما كان بعمر الـ12 عاما نتيجة التهابات من الرماد المرتبط بالفرن.

«كان زمان لازم اشتغل مهنة أهلي، وأبويا إداني الصنعة دي واتعلمتها»، هكذا تذكر «صلاح» المقيم بحي الأسمرات، بدايته مع حرفته التي تحولت بالنسبة له العشق الوحيد وبمثابة الونس اليومي كالوالدين والأخوة والزوجة، بحسب وصفه، متفاخرا: «بإيدي كل حركة كأنها سمفونية في الشغل وبتخيل نفسي في درس للموسيقى».

سنوات طويلة قضاها أقدم حرفي في مهنة الفخار، والبالغ عمره 62 عاما، بين ورشة الفخار الشاهدة على لحظات الفرح والصناعة والألم أيضا حيث تسببت المهنة أيضا في بتر إصبع يده لكنه لم يستطع التخلي عنها، موضحا: «جاتلي أكتر من مرة جلطة وولادي بيفضلوا يقولوا ليا كفاية لكن مقدرش أسيبها، ومين يصرف عليا؟ أمد إيدي لولادي؟».

ثوان معدودة لجأ إليها «صلاح» حتى يخفي من ذاكرته لحظات الألم؛ ليعاود التفاخر بمهنة الفخار التي تعتمد على الطين الأسواني والمياه، شارحا بدقة كيف يتعامل مع أدواته لإنتاج ما يقرب من 15 قطعة فنية يومية: «الطين بيطحن ويتحول بودرة ويتعجن ويتخدم عليه كويس أوي وبعدين أنا بشتغل على الدولاب وبشكل تماثيل وإناءات زرع وغيرها».

«الدولاب» المعتمد عليه الستيني محمد صلاح، هو عبارة عن قطعة أشبه بـ«الترابيزة» يعلوها قطعة ذات شكل دائري وأسفلها نفس القطعة بحجم أكبر ومتصلتين بقطعة من الحديد، حتى يتمكن عليها الصانع تشكيل قطعة الفخار.

تشكيل قطعة الفخار سبق وشارك به «صلاح» في مجموعة من الأعمال السينمائية التي سلطت الدور على بعض الأماكن الخاصة بهم في مشاهد سريعة، بحسب قوله، متابعا: «كنا بنشارك كده في أعمال فنية زي فيلم المولد وكانت فرصة إن الناس تعرفنا».

ويرى صانع الفخار أن مهنته مرتبطة أكثر بالحرفيين القدامى، لكنه عادة ما يلجأ لتعليم من يريد إتقانها بجانب مساعدة بعض طلاب كليات الفنون الدارسين لمجال النحت، حيث يتذكر أبناءه الثلاثة خاصة ابنته الصغرى «ياسمين»، الطبيبة التي تدرس بالسنة النهائية بالقصر العيني.

«ولادي هما كل حاجة ليا زي مهنتي بالظبط اللي ماليش غيرهم».. كلمات أخرى وصف بها «صلاح» مهنته الوحيدة التي يتمنى في آخر أيامه أن تكون سبب في ابتسامته، حيث يرغب في الاستقلال بمكان خاص به بعدما اضطر لغلق محله الذي لا يقوى على دفع إيجاره مضطرا في النهاية العمل في ورش لأناس آخرين.