في فيلمها الوثائقي “غنيمة حرب”، تروي المخرجة الإسرائيلية كرنيت مندل قصّة عثورها على مخزون كبير للأفلام والتسجيلات الفلسطينية، خلال عملية بحث روتينة عن أفلام توثيقيّة في أرشيف الجيش الإسرائيلي أجرتها في نطاق عملها محقّقةً صحافيةً في سلسلة وثائقية.
بدأت القصة بورقة تضمّ قائمة طويلة محتويات طويلة كُتبت بخط كمبيوتر قديم، وحملت عنوان “أفلام غنيمة حرب” شدّت انتباهها، لتبدأ مسيرة بحث طويلة وشاقة يوثقها فيلمها المذكور، انتهت بالكشف عن جزء من هذا المخزون والاطّلاع على بعض من محتويات أفلامه وتسجيلاته وعرض مشاهد منها في فيلمها الوثائقي الذي عرض مؤخرًا.
إنّها “ذاكرة وطنية” جرى السطو عليها ونهبها ولم تُرجَع إلى أصحابها، كما تقول المخرجة، التي تعرض في فيلمها مشاهد لمراسل التلفزيون الإسرائيلي، في حينه، إيهود يعاري، يقف أمام مقر مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت خلال العدوان على لبنان عام 1982. وينقل، ببث مباشر، عملية اقتحام جنود الجيش الإسرائيلي للمركز وإفراغ محتوياته من كتب ومستندات وصور وأفلام ونقلها إلى إسرائيل، كما تنقل المخرجة رد فعل مديرة الأرشيف العسكري التي تنفي نهائيا وجود الأرشيف الفلسطيني بحوزة الجيش الإسرائيلي، وتقول إنّ هذا الأرشيف تمت إعادته عام 1993 في إطار اتفاق أوسلو.
وكما هو معروف، اقتحمت إسرائيل خلال عدوانها على لبنان عام 1982 مركز الأبحاث الفلسطيني ونهبت جميع محتوياته ونقلتها إلى إسرائيل. وفي هذا السياق، يروي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وأحد العاملين في المركز، عبد الله حوراني، أنّ صحافية أميركيّة رصدت 35 شاحنة خصصت لنقل محتويات المركز، في حين جرى إفراغ أربعة طوابق من أصل ستة طوابق شملها مبنى المركز، في حين أنّ الطابقين الناجيين ضمّا أرشيف صحف ومواد إسرائيلية. وبعدها بمدة قصيرة، جرى تفجير مبنى المركز بسيارة مفخخة أدّت إلى مقتل وجرح العشرات بينهم زوجة مدير المركز، صبري جريس، التي لاقت حتفها. كما أدّى التفجير إلى تدمير مبنى المركز بالكامل لتكون هذه العملية المسمار الأخير في نعش المركز، الذي فشلت محاولات بعثه في مواقع أخرى.
وعن إعادة محتويات مركز الأبحاث في إطار الصفقة التي أبرمتها الجبهة الشعبية القيادة العامة لتبادل الأسرى مع إسرائيل، التي جرت 1983 يقول عبد الله الحوراني، إنّ القيادة الفلسطينية طلبت من المدير العام للمركز، صبري جريس، أن يحضر إلى الجزائر في اليوم الذي تقرّر أن يتم التبادل فيه، لكي يُوقّع على إيصال باستلام مئة وأربع عشرة حاوية تضمّ مكتبة المركز وأرشيفه. وقد رفض صبري أن يحضر التبادل ويوقّع على إيصال باستلام حاويات مقفلة في احتفال عاجل دون أن تتوفّر فرصة تفحّص ما وضعته إسرائيل في هذه الحاويات، لكن إباء صبري لم يعطّل تنفيذ عمليّة التبادل، فالصليب الأحمر الدوليّ وافق أن يوقّع وصل الاستلام الملكة دينا التي كانت في الجزائر، وعيسى عبد الحفيظ المستشار السياسيّ لسفارة فلسطين في العاصمة الجزائريّة.
ويواصل حوراني الحديث عن محاولات شارك فيها قادة كثيرون لإقناع سلطات أيّ دولة عربيّة من الدول المحيطة بإسرائيل بأن تأذن لنا بأن نعيد تأسيس مركزنا في عاصمة هذه الدولة أو تلك، وذاك دون طائل. فتوجّه، هو وصبري جريس ومن انضمّ إليهما ممن أبُعدوا عن لبنان، إلى قبرص. وفي غضون ذلك، نقلت الحاويات من معسكر تبسّه الجزائريّ الصحراويّ الذي وضعت فيه في البداية إلى مكان آخر تضاربت الأنباء التي وصلتنا إلى قبرص في تحديده.
بقية الحكاية يرويها سميح شبيب، في مقال تحت عنوان “مركز الأبحاث الفلسطيني – الذاكرة الضائعة”، فيقول: سافرت برفقة صبري جريس إلى الجزائر مطلع شهر آذار/مارس 1986، بوصفي مسؤولًا عن قسم التوثيق، بعدما أرسلنا فاكسًا للسفير منذر الدجاني (أبو العز) نخبره فيه بتاريخ وصولنا إلى مطار الجزائر… حيث قضينا ليلتنا الأولى على شاطئ خليج سيدي فرج، وقمنا بالاتصال بالسفير في منزله، وتحدث السفير عن أن أمطارًا سقطت على الصناديق، وأن المعسكر الجزائري في العاصمة قد نقل، وبالتالي تم نقل المكتبة إلى تيبسة في قلب الصحراء الجزائرية، في معسكر تشغله القوات الفلسطينية.
ويتابع “بعد أخذٍ وردّ، وكان موقفنا، صبري وأنا، ضعيفًا، بل وفي غاية الضعف، ولا يمكن الدفاع عنه”، كما يقول، “طلبنا من السفير تسهيل مهامنا للاطلاع على ما تبقى من المكتبة، وإمكانات شحنها إلى قبرص.. واتفقنا على ذلك، على أن أقوم في اليوم التالي بالسفر إلى تيبسة، والاطلاع على محتويات المكتبة أولا”.
ويواصل شبيب أنّه بعد أن سافر وتأكّد من سلامة المواد، واجه، هو ورفيقه جريس، عوائق بيروقراطية كبيرة من السلطات الجزائرية في نقلها إلى قبرص، كما أنّ القيادة الفلسطينية رفضت اقتراحا جزائريا لفتح المركز في الجزائر العاصمة، ويروي كيف أنّه فوجئ برسالة من الرئيس عرفات تطلب من جريس السفر إلى القاهرة وعرض محتويات المركز كهدية لمكتبة الأهرام، وكيف رفضت الأخيرة هذه الهدية.
وكيف قامت الجزائر بعد العدوان الجوي الإسرائيلي على مواقع قيادة م.ت.ف في تونس، في حمام الشط، بنقل المعسكر الفلسطيني من تيبسة إلى معسكر في الجنوب، هو معسكر البيّض، ونقلت مكتبة المركز معهم، وكيف أنّ المكتبة لم تحظ هناك بأي اهتمام جدي، ولم تتوافر أدنى الشروط اللازمة للتخزين، فبدأ التلف يفعل أفاعيله بها، إضافة إلى أفاعيل القوارض، ومن بعدهم البشر، كما يقول، ما أدّى إلى تلاشي المكتبة والوثائق والأرشيف شيئًا فشيئًا، وأصبحت أثرًا بعد عين، وسط صمت مريع، لا يعرف سببه الحقيقي..
وإذا كانت قصة مخزون الأفلام الوثائقية التي كشفتها المخرجة الإسرائيلية تفيد بأن إسرائيل لم تقم بإعادة محتويات مركز الأبحاث الفلسطيني وأرشيفاته كاملة، أو أنّها قامت بإعداد نسخة أخرى عن هذه المحتويات، فمن المرجح أنّ هذه النسخة هي الوحيدة الباقية من جهد ثقافي فلسطيني استمر من سنة 1964 وحتى 1994، وساهمت فيه خيرة العقول الفلسطينية، إذ تبين لاحقا أن النسخة المصورة من أرشيف المركز والتي جرى الاهتمام بإعدادها وحفظها في دولة أخرى خارج لبنان، بعد التخوفات التي تولدت عن الحرب الأهلية اللبنانية، كما يقول عبد الله الحوراني، قد تم حفظها في مركز الدراسات الإسرائيلية في بغداد ولا يعلم أحد بمصيرها بعد الغز الأميركي للعراق.
اقرأ/ي أيضًا | وثائق تتكتم إسرائيل عليها: طرد وقتل ونهب الفلسطينيين إبان النكبة
وهكذا، تصبح إسرائيل هي من يستحوذ بالكامل على الأرشيف الفلسطيني، بعد أن سيطرت على محتويات هذا الأرشيف بعد نكبة 1948، ونهبت هذا الأرشيف خلال اجتياحها لبيروت عام 1982.