06:12 م
الإثنين 27 ديسمبر 2021
عمان – (بي بي سي)
صُنفت هذه المدينة الأردنية الصغيرة التي تتقاطع فيها مآذن المساجد مع أعمدة الكنائس كـ “مكان للتسامح وكرم الضيافة في المناطق الحضرية” من قبل اليونسكو.
يتردد صدى أذان الفجر في وادٍ لا يزال نائما قبل أن تبدأ أشعة الشمس الأولى في إلقاء الضوء على منازل من الحجر الجيري مبنية على منحدرات ثلاثة جبال.
ويرتفع صوت المؤذن وهو يقول “الله أكبر” فوق قباب المدينة، وتتعالى مكبرات الصوت من المآذن المنتشرة في الأراضي الوعرة تنادي الناس “حي على الصلاة”.
وبعد لحظات، تدق أجراس الكنائس في شوارع المدينة المتعرجة لإقامة قداس الصباح.
كان هذا مشهدا في مدينة السلط، التي انضمت مؤخرا إلى قائمة اليونسكو للتراث العالمي في الشرق الأوسط. واعتبرت هذه المدينة الأردنية الصغيرة التي تتقاطع فيها المآذن وأعمدة الكنائس “مكانًا للتسامح وكرم الضيافة في المناطق الحضرية”.
وكانت مدينة السلط تقع على مفترق طرق التجارة والحج بين البحر الأبيض المتوسط وشبه الجزيرة العربية، ونمت لتصبح مدينة مزدهرة في أواخر القرن التاسع عشر خلال فترة الإصلاحات التي كانت تهدف إلى “تحديث” الإمبراطورية العثمانية.
وفي وسط المدينة التاريخي، تتوهج المئات من المباني التراثية المصنوعة من الحجر الجيري – التي تعود إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين – ذات المداخل المقوسة والأعمدة المنحوتة والنوافذ العالية.
وتقول ثائرة عربيات، وهي صاحبة متجر لتدريب النساء المحليات على أعمال الحياكة التقليدية، بينما كانت تسكب لي فنجانًا من القهوة برائحة الهيل: “المباني الحجرية الصفراء مهمة، لكنها ليست السبب وراء تميز مدينة السلط”.
جلسنا محاطين بفساتين وأوشحة مطرزة في متجرها الصغير في وسط المدينة، حيث وجدتها لأول مرة وهي تخيط أطراف “الشماغ”، وهو وشاح أردني تقليدي. توقفت عربيات عما تقوم به لتخبرني بالمزيد عن مسقط رأسها، قائلة بعد أن ملأت كوبي بالقهوة للمرة الثانية: “ما يجعل هذه المدينة مميزة للغاية هو الناس هنا، ولطفهم”، ثم سألتني: “هل تناولت الإفطار؟ تعالي وكلي معي”.
وأثناء استكشاف شوارع المدينة المتعرجة والأزقة الضيقة، تلقيت دعوات متكررة لتناول طعام الغداء أو لشرب القهوة أو الشاي، فمن الواضح للغاية أن تقاليد الضيافة والكرم تجاه الزوار لها جذور عميقة في السلط.
وعلى مدار قرون طويلة، كانت المدينة محطة مهمة للتجار والحجاج وهم في طريقهم إلى القدس أو دمشق أو بغداد أو مكة، وكان سكان المدينة يرحبون بالزوار ويقدمون لهم الطعام والسكن.
وفي القرن التاسع عشر، أصبحت السلط مقرًا إداريًا للمنطقة، واستقطبت التجار من خلفيات دينية وثقافية مختلفة. وانتهى الأمر بالعديد من هؤلاء بالاستقرار في تلك البلدة التي تقع على سفح التل، وأنشأوا أحياء مزدهرة اختلطت فيها القبائل البدوية المحلية بالتجار والحرفيين من بلاد الشام.
وقال أيمن أبو رمان، المدير السابق للسياحة في محافظة البلقاء المحلية (إحدى محافظات الأردن الاثني عشر): “أصبحت السلط ملتقى بين الشرق والغرب، بين الصحراء والمراكز الحضرية”، مضيفاً أن تنوع المدينة ينعكس في هندستها المعمارية.
وقد يكون أفضل مثال على المزيج الذي تضمه المدينة من الأنماط العثمانية والتأثيرات الأوروبية والتقاليد المحلية هو منزل أبو جابر الفخم، المبني من الحجر الجيري المحلي بأسقف جدارية إيطالية ونوافذ زجاجية ملونة على طراز فن “آرت نوفو” للزخرفة، بالإضافة إلى الأعمدة المزخرفة والبلاط الخزفي من سوريا.
وتعود ملكية المنزل لعائلة أبو جابر، وهي عائلة تجارية ثرية استقرت في السلط في نهاية القرن التاسع عشر. وفي عام 2009، جرى تحويل المبنى إلى متحف يأخذ الزوار عبر تاريخ وتقاليد المدينة العثمانية.
وعندما اختيرت عمان عاصمة لإمارة شرق الأردن عام 1928، فقدت السلط أهميتها الإقليمية. لكن المدينة نجحت في الحفاظ على شخصيتها بعد أن نجت من التوسع العمراني المكثف في عمان.
وبالنسبة للمهندس المعماري الأردني رامي الضاهر، الذي أعد ملف ترشيح المدينة لإدراجها في قائمة التراث العالمي، فإن المدينة فريدة، ليس فقط بسبب المباني التاريخية من الحجر الجيري، ولكن أيضًا بسبب الطريقة التي حافظت بها على تقاليد الضيافة والتسامح على مر القرون.
وقال: “لقد عززت تضاريس المدينة الشعور بالمجتمع والقرب، إذ يعيش الجيران بالقرب من بعضهم بعضا ويدعمون بعضهم بعدة طرق مختلفة”.
وتشجع شبكة من السلالم المترابطة، والأفنية المشتركة والساحات العامة، على تطوير مجتمع متسامح ومتعدد الأديان، كما تضفي إحساسًا بالانتماء إلى تلك المساحة المشتركة. وتتميز معظم المباني التقليدية بساحات فناء مشتركة أو تراسات تُمكن الجيران من طهي وتناول الطعام والشراب معًا.
وقال أيمن أبو رمان بينما كنا نجلس سويًا في غرفة في متحف أبو جابر بإطلالته البانورامية على جبال المدينة: “لا يزال الناس هنا يعيشون وكأنهم جزء من نفس العائلة، ولا يوجد فصل بينهم”.
وأشار باتجاه الساحة المقابلة للمتحف، حيث يلتقي رجال مسنون من خلفيات مختلفة كل يوم للعب الطاولة والمنقلة، وهي لعبة قديمة كان يلعبها العثمانيون، ثم أشار إلى المسجد والكنيسة أمامه، وقال: “الكنيسة في مواجهة المسجد ويشتركان في نفس المدخل. المسلمون والمسيحيون يشاركون في احتفالات بعضهم بعضا، ويتشاركون ما لديهم مع جيرانهم”.
ربما يكون هذا أكثر وضوحًا في أقدم كنيسة في المدينة، والتي بنيت عام 1682 حول مغارة قيل إن القديس جورج ظهر لراع بها، وتعرف الكنيسة باسم كنيسة القديس جاورجيوس أو كنيسة “الخضر”.
وتمتلئ الكنيسة الحجرية المقببة من الداخل بالأيقونات والفسيفساء التي تصور القديس جورج وهو يذبح التنانين، وما تبقى من الكهف يزوره أشخاص من خلفيات مختلفة يأتون لإضاءة الشموع وترك رغبات مكتوبة بخط اليد.
وقالت صابرين دبابنة، التي تعمل في الكنيسة الأرثوذكسية المجاورة، كنيسة رقاد السيدة العذراء: “يذهب المسيحيون والمسلمون إلى هناك للصلاة، فالجميع مرحب بهم”.
وأخبرتني صابرين بأن هذا الانسجام بين الأديان هو ما يجعل السلط مميزة للغاية.
وقالت: “حارس الكنيسة الذي يعمل معي اسمه علي وهو مسلم. لا توجد اختلافات بيننا، فنحن نعيش هنا كأخوة وأخوات”.