رغم وفاتها منذ ما يقرب من عامٍ ونصف، إلا أنها ما زالت حية بأدق التفاصيل في ذاكرة سكان منطقتها بأكملهم، إذ عُرِفت بحرصها على أعمال الخير لمن حولها، وقدرتها الاجتماعية على حل مشاكل الناس، ما جعل الأهالي يلقبون هانم محمد، بـ«سيدة عابدين الأولى» ويُطلقون على منزلها «البيت الأبيض»، بالإضافة لتعليق صورها في الشارع من يوم رحيلها وحتى الآن.
في أحد الشوارع الجانبية بحي عابدين، تنتشر صورٍ كبيرة الحجم مدون في أسفلها، كلمات الترحم وعبارات الدعاء يسبقون اسم «سيدة عابدين الأولى»، بينما تحمل في الأعلى وجه إمرأة عجوز طيبة الملامح بابتسامة هادئة، باتت هي الأشهر بذلك الحي في محافظة القاهرة.
«يسري» يطلق على زوجته الراحلة «سيدة عابدين الأولى»
بملامح وقورة وعينين يغمرهم عليهما الحب والحنين، استرجع الشيخ يسري محمد، 66 عاما، في حديثه لـ«» ذكرياته مع زوجته ومسيرتهم معًا، إذ بدأت معرفتهم: «وإحنا في 6 ابتدائي وحبينا بعض وفضلنا مكملين لحد ما كبرنا واتجوزنا»، وواجها سويًا معاناة شديدة في بداية حياتهما حتى تحسَّنت ظروفهم، لتجمعهم العديد من المواقف المؤثرة التي لم ينساها لحظة أو تغب عن تفكيره رغم وفاتها منذ عامٍ ونصف،: «حاطط صورتها على شاشة الموبايلين بتوعي وأول ما أفتح الموبايل ببوسها».
لم يكن لسيدة عابدين الشهيرة، مصدرا للدخل؛ سوى بيع «ورق العنب» أمام منزلها، لكنها عُرفت بتقديمها أعمالٍ خيرية كثيرة لكل من حولها، منها التكفُل برعاية الأيتام وتجهيز العرائس، وتقديم المساعدات المادية للأرامل وأصحاب الظروف الصعبة، بالإضافة إلى حرصها على توزيع كميات كبيرة من الطعام يوم الجمعة من كل أسبوع على رواد سوق الإثنين بحي عابدين: «كل ما بتطلع الجنيه يرجعلها تاني ويزيد»، وفقا لزوجها، إذ أنهما رغم معيشتهم البسيطة، كانا يحرصان على إعداد موائد ضخمة للإفطار طوال شهر رمضان.
إطفاء أنوار الشارع بأكمله يوم وفاتها
يوم رحيل «سيدته الأولى»، ذكرى مؤلمة بالنسبة لـ«يسري»، إذ أطفئ أنوار الشارع بأكمله، رغم قدرته المعتادة على ضبط مشاعره لكنه خسرها في ذلك الوقت، وسيطر عليه البكاء بين الناس حينها: «من يوم وفاتها كل حاجة طعمها اتغير، الأكل والشرب، عيالي كلهم معايا وبناكل ونشرب مع بعض، ومحدش عارف يعوَّض مكانها»، لذلك علَّقوا صورا بعابدين منذ يوم وفاتها؛ إكرامًا لها وتخليدًا لذكراها، وسط ترحيب من الأهالي.
كما استكملت الحديث بعد والدها، الابنة هبة يسري، 46 سنة، لتحكي ذكرياتها مع والدتها وأعمال الخير التي كانت تواظب على تقديمها،: «كانت بتقعد في المحل وجنبها كراتين السلع بتاعة التموين، وأي واحدة معدية وتكون عارفة أن ظروفها تعبانة تنادي عليها تقولها خدي قزازة زيت، أو خدي كيس رز»، فلم تترك واحدة محتاجة تمر أمامها دون أن تُقدم لها شيئًا.
وعن لقبها المتداول بين أهالي الحي، قالت الابنة: «اللي لقبها بسيدة عابدين الأولى الدكتور حسن محمد حفناوي اللي والده حسن حفناوي كان زوج الست أم كلثوم.. وقتها كان مترشح في مجلس الشعب وأطلق عليها اللقب ده بسبب تأثيرها وأعمالها بين الناس».
إطلاق لقب «البيت الأبيض» على منزلها
كما قصَّت أيضًا الابنة الأخرى «أم أدهم»، جانبا من حياة والدتها، التي كانت تساعد في تربية الأيتام وتجهييز العرائس، فضلا عن قدرتها على حل مشاكل الأهالي في منطقتها بمهارة وذكاء واضح، لذلك أطلق على منزلهم بـ«البيت الأبيض».
لم تمر من ذاكرة الابنة أيضا يوم رحيل والدتها: «لما ماتت كانت أيام كورونا ورغم كدا الناس كلها أتلمت لدرجة أن الشارع أتقفل»، إذ أنه يومها جرت واقعة شديدة الغرابة: «قبل ما الجنازة تتحرك، لقينا كلاب الشارع بتاعنا قعدت جنب الصندوق بتاعها وكانت بتبكي بالدموع، الكل كان بيحبها»، على حد قولها.