صندوق خشبي ثقيل بأدوات مسح الأحذية، يحمله يوميا على ذراعيه المتألمتان اللذان قاربا الخمسين عاما، وفرشٍ مُتهالك مُغطى بالتراب وبطانية بالية خفيفة.. هذا كل ما يمتلكه مرزوق علي، فلم ينال نصيبا من اسمه، بعد أن ترك بلدته في الصعيد وجاء مُستغيثَا بشوارع الجيزة بحثا عن الرزق ليستعين به على تربية 5 بنات وولد صغير، دون مسكن أو مأوى.
بصوت ضعيف وحزين، يروي مرزوق علي، صاحب الـ 49 عامًا، من أبناء قرية الوليدية التابعة لقسم ثاني محافظة أسيوط، في حديثه لـ«» جانبا من معاناته التي بدأت منذ أعوام، فعمل بمهن مختلفة بين الصيد وحمل الحقائب وجمع الأموال بعربات النقل، قبل أنه يترك أسرته في الصعيد وينتقل إلى حي الدقي بمحافظة الجيزة منذ 10 سنوات، ليعمل في مسح الأحذية، مُحاولًا جني المال حتى يرسله بنهاية كل شهر لأطفاله: «الأول كنت مأجر أوضة صغيرة ستراني بـ250 جنيه في الشهر، ببولاق الدكرور، بس في مرة من 3 سنين نزلت إجازة في الصعيد ولما رجعت لقيتها كلها مسروقة وماسبوش أي حاجة فيها»، ليجد الأب نفسه بلا مأوى بين طرقات الشوارع.
«مرزوق» يلجأ إلى الشارع: كل اللي حيلتي اتسرق
بعد تعرض الرجل الأربعيني للسرقة، ونهب كل ممتلكاته البسيطة التي كانت تعينه بصعوبة على مشقة الحياة، لم يعد قادرا على تأجير مسكن آخر، ليلجأ في النهاية إلى الشارع، فلازمه ليلًا ونهارًا: «بقالي 3 سنين في شوارع الجيزة، الصبح بمسح الجزم، وبعد ما بخلص الشغل بنام مكاني بالليل»، ليحاول بمرارة توفير قوت يومه البسيط لأسرته المكونة من 7 أفراد يعولون عليه في كل شئ.
ورغم تلك الصعوبة البالغة التي يعيشها يوميا الأب الأربعيني، الذي يمتلك سوى ملابسه التي يرتديها، لكنه لم يسلم من النهب مجددا، «حتى كان معايا تليفون صغير بكلم به عيالي أتسرق مني»، لتزداد معاناته في الاتصال بأطفاله «ابن صغير بعمر 9 سنوات، و5 بنات» لم تتزوج منهن سوى الكُبرى.
الأب: لما حد يديني أكل.. قلبي بيوجعني على عيالي بفكر هما كلوا ولا لسه
معاش «تكافل وكرامة» الشهري، هو السند الحقيقي التي يتكأ عليه «مرزوق»، فيرسل الـ 550 جنيهًا، لأسرته كي يتمكنوا من دفع إيجار مسكنهم الذي يعيشون به في قريتهم بالصعيد: «معندناش بيت ملك وعيالي متأجرين شقة هناك بـ 450 في الشهر»، ليوفر من راحته وطعامه لأجل أبنائه، وحتى كرامته: «بتصعب عليا نفسي لما يجيلي واحد يمسح جزمته ويتعامل معايا بطريقة متعالية وميحترمش سني ولا ظروفي، بس برضو مببينش، بزعل وبسكت».
ورغم الآلام الجسدية والنفسية التي يتكبدها ابن محافظة أسيوط في عمله، إلا أنه دائم التفكير في أبنائه وأحوالهم: «لما حد يعدي يديني أكل ولا حتة لحمة قلبي بيوجعني وبقول يا ترى عيالي كلوا ولا لسه مكلوش وقدروا يجيبوا لحمة ولا لأ»، لذا يحرم نفسه من كل شيء على قدر استطاعته كي يوفر مبلغًا في آخر كل شهر يُرسله لهم: «لما يكون نفسي في أي حاجة بقول لأ عيالي أولى بيها».
حلم «مرزوق»: مشروع في الصعيد
مشاعر جارفة من الشوق والحب، تجتاح قلب «مرزوق» يوميًا تجاه زوجته وأبنائه، بينما يجلس على الرصيف خلف صندوقه الخشبي، ويتمنى العمل بالقرب منهم كي يعود إلى قربهم بنهاية كل يوم، فيُرطب كلٌ منهم قلب الآخر، ليظل هائمًا في رحلة طويلة من التفكير والتمني والأحلام الوردية، ولا يستفيق منها سوى على صفعة واقعه الأليم المصبوغ بالعجز، كونه: «مقدرش أشتغل أمسح جزم في الصعيد بيعتبروها عار».
يأمل مرزوق في أن يتمكن من العودة لأسرته، وتحقيق حلمه بأن يمتلك مشروعًا في قريته يُمكِنه من كسب رزقه، بدلا من معاناة وألم العمل والنوم على أرصفة الشوارع: «نفسي ألبس لبس نضيف كدا ولا جلابية وأنزل عند عيالي»، متمنيا مساعدته الحصول على حياة كريمة.