مناصرة شخصية جدا..تمارا الرفاعي –

أعمل فى مجال الحقوق والمناصرة والإعلام منذ قرابة العشرين سنة، تدربت فيها ودربت آخرين على أساليب التأثير فى الرأى العام وخلق قاعدة داعمة لحقوق الإنسان، والترويج للحقوق والحريات وحث الناس على المطالبة بها بشكل فعال. لكنى لم أفهم فعلا أثر المناصرة بمعنى مجموعة تعمل معا على مواجهة تحديات وابتكار حلول لها إلا فى الأسابيع القليلة الماضية التى واجهت فيها تحديا شخصيا وخاصا جدا، واستندت على من حولى حتى أتخطاه.
•••
فى المشكلة الفردية الكثير من الوحدة فى أول الأمر، فالشعور هو أن العالم يضيق حتى يخنق الفرد، تنكمش الأفق ويطوق خيط خفى الإنسان ليشعره بأن حبلا سميكا التف حول جسده وبدأ بالضغط على أطرافه. فى هذه المساحة الضيقة يقف الفرد وحيدا تماما، مجردا من أدوات لطالما استخدمها فى مواجهة مصاعب يومية صغيرة أو كبيرة من قبل. يفقد أحدنا تقنيات اكتسبها على مدار سنوات من التدريب ومن المحاولات الدائمة لإيجاد حلول والالتفاف حول الصعوبات أو حتى محاولة تجاهلها.
•••
هنا، فى المربع الضيق وقفت فى مواجهة الشبح: أنا الكائن الملموس وهو الكائن الهلامى صاحب القدرة على ملء الفراغ من حولى حتى أننا معا لم نترك أى مساحة لغيرنا. تذكرت قصة أطفال كنت أقرأها مع أولادى واستشهد بها فيما بعد شرح البطل فيها تقنية استحضار وجوه وأصوات الأحباء فى أكثر ساعات خوفه ووحدته ظلاما فشقت له الوجوه والأصوات طريقا من النور.
•••
فى مربعى الضيق تذكرت القصة وتذكرت أطفالى وصوت ابنى الأكبر قبل أن يخشن حين كان أصغر ببضع سنوات، تذكرت طفلى الأوسط بحيائه المعتاد والطريقة التى يبتسم بها بخجل ليفهمنى أنه يحبنى دون أن يقول فهو لا يعبر عن شعوره بسهولة. تذكرت شقاوة ابنتى وطريقتها فى التعبير بكل وضوح عن رغباتها، وهى ما زالت فى عمر لم تقيده الأعراف والتقاليد وأوجه الثقافة المجتمعية المكبلة كثيرا للعواطف. هنا وقبل أن أختنق بثوان قليلة، تواصلت مع صديقة لم أتواصل معها منذ انتقلت إلى قارة أخرى وفرقتنا المشاغل اليومية. استنجدت بها فظهرت على عجل ووقفت معى، التصقت بى رغم ضيق المكان وبدأت بترديد تعويذة همستها فى أذنى. هنا ظهر صديق قديم فى مربعى الخانق مع باقة من الأغانى التى أحبها. رأيت حين رفعت رأسى مخطوطات موسيقية تتطاير وكلمات الشيخ إمام وأغانى فرنسية وبعض سطور غنتها أم كلثوم كلها ترقص فى الفراغ الصغير المتبقى.
•••
فى الأسابيع القليلة الماضية طبق من أحب كل تقنيات المناصرة التى لطالما اعتقدت أننى أملكها وأعمل بها. طبقها أصدقائى فحشدوا كمية هائلة من الدعم والعواطف وأحاطونى بها. فجأة أصبح لى فريق من المناصرين يلتصقون بى جسديا وافتراضيا. أسمع هتافهم، أقرأ كلماتهم، تصلنى رسائلهم الصوتية والمكتوبة، يمتلئ بيتى بوجودهم رغم البعد. فريق المناصرة عمل بجهد على مدار الأسابيع الماضية وعلى مدار ساعات الليل والنهار فأعضاء الفريق موزعون على القارات بوحداتها الزمنية المختلفة ولم أبق وحيدة قط.
•••
وبما أننى أعمل فى مجال الإعلام والتواصل وأستمتع بتحليل أساليب التعبير المختلفة فقد أعدت اكتشافى للأصدقاء بحسب أدوات التواصل والتعبير التى استخدموها. انتقلت بلحظة من التواصل كمهنة إلى التواصل كوسيلة أفهم من خلالها الشخصيات وإعادة تقييم الصداقات. أشعر فيها بأن ثمة جيش كامل من المناصرين يقف بينى وبين الشبح يصرخون فى وجهه ويملأون المساحة التى بينى وبينه بالحماس.
•••
قطعت شوطا كبيرا فى نفق دخلته منذ قرابة الشهرين، قطعته بفضل أياد أمسكت بى ونظرات محبة مسحت على وجهى وجهود جبارة ممن حولى أبقت مصادر للنور فى قلبى. اكتشف أن المناصرة التى أؤمن بها فى مجال الدفاع عن الحقوق والحريات هى نفسها المناصرة التى تدفعنى باتجاه مخرج النفق. ما زال أمامى بعض الطريق، لم أخرج من النفق بعد إنما لم يعد بنفس الظلام الذى كان به فى البداية.
•••
الدرس المستفاد هو أننى دون دعم من حولى قد لا أخرج من النفق. الدرس هو أن أنتبه لتغيير يطال أناسا أحبهم وأتدخل كما تدخل من حولى فى حالتى للمساعدة. الدرس أننى قوية بنفس قوة أعطاها لى من يحيطون بى، لست قوية بمعزل عنهم وعن طاقتهم. الدرس أيضا أننى، كغيرى، قد أدخل فى نفق مظلم وأخاف وأتعثر وأقع. هنا أمسك بى من حولى، نفضوا عنى الغبار، تابعت صديقتى تعويذتها، دندنت أم كلثوم أغنية لى وحدى، تخيلوا؟ حتى ظهرت الشمس وأعددت القهوة. الأشباح تظهر فى الليل وتهرب من الضوء، خصوصا إن كان الضوء قادما من جيش المناصرة الخاص بى، مناصرة شخصية جدا.

كاتبة سورية