جدران منزل صغير، في إحدى شوارع شبراخيت بمحافظة البحيرة، يخفي وراءه شاب عشريني يتنقل بين غرفه زاحفا على يديه، حفظ ملامحه سكان المنطقة، إذ يبدو شكله أكبر من عمره بسنوات، وتظهر هيئته ما يخفيه من حزن عميق، رغم محاولات أسرته بالتخفيف عنه، فتراعيه والدته التي تركت عملها وتفرغت من أجله منذ أن كان في الثالثة من عمره، مع والده الذي أرهقته تكاليف العلاج دون كلل أو شكوى.
«سعاد» تفرغت لطفلها المريض منذ أعوامه الأولى
بوجه عجوز رسم خطوطه الزمن، وبلهجة ريفية، سردت الأم سعاد محمد، لـ«»، سنوات من المعاناة بنبرة صوت تحمل مشقة بالغة عاشتها منذ شبابها، إذ حملت على عاتقها مسؤولية 4 أطفال، أكبرهم مريض لا يقوى على المشي أو حتى قضاء حاجته بشكل طبيعي، فأجبرته ظروفه الخاصة على السير بالزحف على الأرض بيديه، بعد معاناة مريرة: «ربنا رزقني بابني محمود الكبير عنده ورم في العمود الفقري، وثقب في المخ، وركب صمام في المخ وللأسف وقت عملية العمود الفقري انقطع النخاع الشوكي وبقى لا يقدر يمشي ولا يتحكم في عملية الإخراج».
عاطفة الأمومة، بداخلها كانت أقوى من مشاعر اليأس في أن ترى صغيرها محروما من طفولته، لذا استقالت من عملها كمدرسة للتربية الفنية، بإحدى مدارس شبراخيت، للتفرغ لرعاية ابنها الأكبر، بعد سعي متواصل بين عيادات الأطباء منذ أن كان في الثالثة من عمره: «مقدرتش أنزل الشغل وأسيب ابني، قعدت أراعيه لحد ما كبر وبقى عمره 29 سنة وأنا مكرسة وقتي كله ليه».
«محمود» يسير زحفا على يديه
كبر الصغير وبات شابا، يرى أقرانه من حوله يتحركون ولا يقوى هو حتى على الوقوف أو السير، ويكتم مرارة العجز بصعوبة داخله، لتفيض عين والدته بالدموع حزنا عليه، لذا حفزته على الخروج من الدائرة المغلقة ليرى جانبا آخرا من الحياة: «كان منى عيني أشوفه بيشتغل وبيخرج برا البيت، ويشوف الناس حتى لو بيمشي على إيده ورجله».
لم يجد «محمود» وظيفة تناسبه سوى العمل على ماكينة صرف فارق نقاط الخبز، ولكن بسبب هيئته وظروفه الصعبة تعرض للكثير من المضايقات المستمرة من البعض: «ممكن راجل يتعصب عليه يشتمه ويتعامل معاه بعنف لو حصل عطل في ماكينة الصرف وهو لا حول له ولا قوة»، تروي الأم ودموعها تسيل على وجهها حزنا على حال ابنها الأكبر.
الأمل في فرصة شغل مكتبية
أكثر من عشرين عاما، مرت خلال رحلة بحث الأم والأب عن علاج لابنهم الأكبر، قطعوا فيها مسافة كبيرة، ولم يتبقى إلا أخر مرحلة بعد اكتشاف ورم في المثانة وتم تغيير مجرى البول ليخرج من السرة عبر قسطرة طبية.
تأمل الأم فقط في أن يحصل نجلها على وظيفة إدارية ثابتة تحميه من قسوة قلوب البعض أثناء التعامل معه، خاصة بعد ما تعرض له داخل مخبز العيش البلدي بالمنطقة التي يسكن بها، خاصة مع قدرته بالاعتماد على نفسه في الخروج من البيت حتى، زحفا على يديه: «محمود معاه دبلوم تجارة ونفسي في أي فرصة شغل ثابتة ليه، أي شغل إداري يقعد على مكتب يصونه بدل بهدلة الناس ليه في الفرن»، متمنية أن يتمكن نجلها من الاستمتاع بقدر بسيط من الحياة على غرار أقرانه من مثل سنه.