باب على مصراعيه من الهدوء والسكينة والحمد، فتحته «أم رحمة» أمام البلاء، فقد قيل «على قدر أهل العزم تأتي العزائم»، كان نصيبها من الدنيا إعالة ثلاث أبناء خطف منهم مرض «الضمور العقلي» عمرًا، هنا كانت طفولتهم على موعد مبكر مع زيارات الأطباء والمستشفيات، بدأ الصغار رحلة شاقة للتمسك بالحياة، سلاحهم في ذلك أم شابة وهبت حياتها لهم، صبرت واحتسبت وكَفَت وأَوَت، عسى أن يكون لها من اسم ابنتيها المريضتان نصيبًا «رحمة» و«شروق»، وثالثهما «مصطفى».
في حي إمبابة، وداخل بيت بسيط ما زال يحيط جدرانه الخارجية ما تبقى من «زينة رمضان»، جلست «أم رحمة» بخمارها البيتي وعباءة صفراء فاتح لونها، بوجه صبوح أسمر استقبلتنا في غرفة الضيوف، يحاوطها الأبناء الثلاثة، تحكي وهي تطعم صغيرها «مصطفى» كواليس رحلتها الشاقة التي بدأت بعد أشهر من ولادة طفلتها الثالثة، فهي لها من الأبناء ستة، وقتها لاحظت معاناة رضيعتها في تحريك أطرافها الأربعة وتأخر نموها الذهني، هنا بدأت جوالاتها داخل المستشفيات، تحملها على يديها من الطابق السابع في كل مرة، حتى أكّد لها الاطباء إصابتها بضمور في المخ، إلا أنَّها لم تيأس، استبدلت رحلات المستشفى بأخرى لمراكز العلاج الطبيعي، علّها تخفف عن ابنتها صعوبة القيام بأمور الحياة اليومية، ولم تكن تعلم أن القدر سيهبها طفلين آخرين بنفس المرض.
تبدلت حياة «أم رحمة» بعد اكتشاف مرض صغارها الثلاث، تختلس من النوم ساعات قليلة، لكل طفل مواعيد علاج خاصة، تقسم أيامها حسب ذلك، فمن جلسات العلاج الطبيعي إلى متابعة العلاج بالمعاهد المتخصصة بشلل الأطفال تبحث الأم عن نقطة ضوء، كل يوم تخرج وهي تحمل على يديها واحدًا منهم وفي قلبها أمنية واحدة، أن تراهم مثل أقرانهم، أصبح كل شيء في يومها بميعاد، لا مجال هنا للتأخر عن جرعات العلاج، وإلا أُصيب الصغار حالة من «التشنج»، لكن تمر أيام على الأم لا تجد فيها ثمن العلاج، بل وتضاعفت المعاناة بعد إصابتها في ذراعها «من وقت ولادتهم ودايخة بيهم على المستشيفات والدكاترة، كل أسبوع باخد حد منهم أشيله وأنزل به من الدور السابع، وأروح جلسة العلاج الطبيعي، وأرجع اشيله وأطلع بيه تاني، مكنتش بقعد غير يوم الجمعة، لحد ما حصلي مشكلة في دراعي ومبقتش أقدر أشيل حد منهم».
صبرٌ على صبر، لسان حال الأم الأربعينية بعدما لاحقه المرض، مرة تستعين بصغارها الآخرين لتخفيف مشقة رعاية أشقاءهم المرضى، خاصة بعد دخول أحدهم المدرسة، ومرة تستعين بالأب أيضًا حتى يساعدها في حمل الصغار في جولات العلاج والمدرسة، لكن الأم بحاجة لتدخل جراحي بسبب الغدة الدرقية لوجود ورم بالرقبة، إلا أنَّها تخشى ذلك، فلمن تترك صغارها؟ كما أنَّها أصيبت بمرض السكر، فضلًا عن حاجتها لإجراء عملية جراحية بذراعها «مبقتش أقدر اشيلهم وأنزل بيهم كل يوم، دراعي من كتر الشيل بقي ضعيف وفيه انسداد في الشرايين ومحتاج عملية جراحية، وعندي الغدة وارمة في رقابتي، دا غير إني عندي السكر، بس رغم كل دا مقدرش أغيب شروق عن مدرستها بشكل دائم، خاصة بعدما نجحت في تانية إعدادي وجابت مجموع كبير، بحاول أشوف حد ينزلها معايا وبنركب توكتوك للمدرسة».
تراكمت الديون على أكتاف «أم رحمة» بسبب علاج الصغار، فزوجها يعمل داخل إحدى أفران المخبوزات، ولا يكفي راتبه الشهري قضاء حاجات أطفاله من حفاضات يومية وعلاج ومعيشة وإيجار للبيت الذي عجز عن سداده منذ أكثر من عام، «ناس كتير بقابلها بتقولي دا ياريت ربنا ياخذهم أرحم، برد وأقول دول نور عيني وربنا مديني الصحة عشانهم، هو بس الحال ضيق».
لا تتوقف عن الدعاء، دومًا ما يتسلل لها الأمل من أضيق لحظات الضيق، تنسى تعب ومشقة اليوم بضحكة تراها على أحد صغارها، تتمنى أن تجد لصغيرها «مصطفى» ثمن العلاج، وإجراء جراحة لشقيقته «شروق» في قدميها، وبيت في طابق أرضي يغنيها عن مشقة «الطلوع والنزول»: «عندى مصطفى 6 سنين بيجيله تشنجات ولازم يأخد علاج بـ700 جنيه في الشهر، وشروق هي الوحيدة اللي بتتكلم في إخواتها وعايزة عملية في رجلها ممكن تمشي بعدها، ونفسي على الأقل في شقة في دور منخفض عشان نعرف نطلع وننزل بيهم».