قبل الولوج في كتابة هذ المقال الصحفي عن القيم وازدواجية المعايير في التعاطي مع الحملة الروسية في اوكرانيا والتي دخلت اسبوعها الثالث , ارتأيت التأكد من التعريف الصحيح لكلمة “قيم” وما ذا تعنيه بالضبط حتى لا تختلط الاوراق بشان التسمية والمعنى مثل ما يحدث في كثير من المناسبات مع مصطلحات ومفاهيم اخرى مثل الارهاب والتطرف والعنصرية وغيرها.
وجدت ان القيم في معظم لغات وثقافات الشعوب بمختلف السنتها ومشاربها و انتماءاتها الثقافية لا تختلف حول ماهية هذا المصطلح ودلالاته ومعانيه. فالقيم بباسطة هي تلك العادات والاخلاقيات والمباديء التي نستخدمها ونمارسها في الكثير من تفاصيل حياتنا اليومية. وهي في المعنى الفلسفي للكلمة تعني كذلك تلك الجزئية من الاخلاقيات والمواقف والغايات التي ينشدها الانسان. وجدت كذلك ان الديانات السماوية و الديانات الوضعية في مجملها لا تختلف كثيرا حول القيم وما ذا تعنيه بالضبط بالنسبة للفرد والمجتمع. فهي في مجملها تتلخص في التحلي بالاستقامة والدفاع عن الحق ضد الظلم اما اعتماد هذه السلوكيات فقوامه الاحكام العقلية واستخدام التفكير والمنطق الذي منحه الله للبشر لكي يكون في مقدرتهم التمييز بين الخير والشر وبين الحق والباطل وبين النظر الى الاحداث وفهما قبل الحكم عليها ايجابا او سلبا او اتخاذ مواقف مسبقة عنها.
اذا سلمنا من حيث المبدأ بهذا التعريف ومعنى القيم فسنكون في نظري قادرين على ابداء اراء خاصة او عامة على ما يجري أمامنا من أحداث ومواقف وتطورات. للاسف الشديد وانا اتابع احداث الحرب الاوكرانية وتداعياتها قبل وبعد بدايتها لمست ان بعض السياسيين والكتاب والاعلاميين الغربيين بالاساس فقدوا البوصلة ووجدوا انفسهم امام امتحان صعب وعسير جعلهم ينسون عن قصد او غير قصد استخدام المنطق والعقل في الحكم على الحرب ومجرياتها وما افرزته وتفرزه من اثار وانعكسات انسانية واجتماعية وعسكرية واقتصادية.
سارع الغربيون الى اصدار احكام معادية لروسيا من دون أن يأخذوا بنظر الاعتبار الاسباب والدوافع والادلة والخلفيات التاريخية للخلافات التي نشبت بين حكام فيينا في اوكرانيا الذين نفذوا انقلابا عسكريا قبل قرابة عشر سنوات خلت واستولوا على السلطة بالقوة , وانتهجوا بعدها اسلوبا معاديا لروسيا . مع العمل في الوقت ذاته على اعادة احياء تلك النعرات العرقية والقومية التي شطبت كليا خلال حقبة الحكم الشيوعي السوفيتي حيث انهارت قيم تفوق عرق عن عرق آخر والافضلية الدينية لهذه الكنيسة عن الاخرى او هذا المعتقد عن ذاك , كما تضاءلت طوال الفترة من “الحكم الشيوعي” الفوارق الاجتماعية والنعرات القبلية والانتماء ات القومية وغيرها من الاسباب التي ادت وتؤدي الى نشوب التطرف والعنف واندلاع الحروب مثل ما حدث في يوغوسلافيا سابقا وما يجري اليوم في اوكرانيا.
الغربيون سارعوا الى الدفاع عن اوكرانيا وحكامها حتى وان كانوا يدركون جيدا ان معظمهم ينتمي لحركة قومية متطرفة لم تخف ولاءها الكامل للنازية الالمانية التي ساهمت بشكل كبير في وضع الاسباب لاندلاع حرب عالمية ثانية , أما البعض الاخر من حكام كييف فتربطه مصالح تجارية وعسكرية خطيرة للغاية بجهات خارجية معروفة بعدم احترامها لشيء اسمه القيم الانسانية مثل الادارات الامريكية والحكومات الاسرائيلية المتعاقبة منذ عام 1948.
الغرب استخدم وسائل اعلامه الخاصة والعامة ومنصات التواصل الاجتماعي المعروفة وسخرها لشن حملته المعادية لموسكو, و فرض كل انواع العقوبات التي من شأنها الحاق اكبر ضرر ممكن بالشعب الروسي.
لم تهتم هذه القنوات المتعددة بالحقائق وتفادت التحلي بالموضوعية و عمدت على تشويه مجريات الاحداث وتطوراتها خاصة بعدما ادركت جدية روسيا في تغيير الامورعلى ارض الواقع ووضع حد لغطرسة القوميين المتطرفين وخططهم فيما وصف بجرائم التطهير العرقي التي استهدفت الاقلية الروسية في اوكرانيا وخاصة في دونباسك ودوناسك و جزيرة القرم وغيرها من المناطق التي منع فيها على الروس تعليم لغتهم وممارسة شعائرهم الدينية و احترام خصوصيتهم في مجتمع اوكراني غير متجانس تعيش فيه عرقيات وديانات مختلفة بما فيها جالية اسلامية.
القوميون الاوكرانيون استغلوا هذا التأييد الغربي الأعمى رغم تناقض ممارساتهم مع كل القيم الانسانية وبكافة اللغات والالسنة واستمادوا في حملاتهم التطهيرية بقتل المدنيين العزل من اطفال وشيوخ ونساء روس من دون مراعاة ان مثل تلك الممارسات تصنف في القانون الدولي بجرائم حرب ضد الالنسانية و القانون الدولي يعاقب من يقوم بتنفيذها. موقف غربي متعدد الجوانب عسكري واعلامي واقتصادي صب جله في معاداة روسيا ومعاقبتها.
لكن المفاجأة الكبيرة التي لم يتوقعها ساسة الغرب وادواته الدعائية المغرضة ان رواياتهم لم تصدق مثل ما كانت تصدق عند احتلال العراق وتدمير شعبه وما يجري في فلسطين المحتلة و فغانستان وليبيا وسوريا واليمن وغيرها من بؤر التوتر حيث الضحايا كانوا ولا زالوا يصنفون في القاموس الغربي بالاضرار الجانبية “COLATERAL DAMAGE ” ؟!!
شتان بين مواقف الغرب من قيم كثيرا ما تباهى بها امام العالم في سجل حقوق الانسان والدفاع عن المظلوم في وجه الظالم وغيرها من العبارات الرنانة والشعارات المزيفة لتي سمعناها طوال سنوات لتبرير جرائم امريكية واسرائيلية وفرنسية وبريطانية وغيرها ممن لحقت اضرارا بشرية جسيمة لا تحصى ولا تعد ولم يحاسب عنها من كانوا وراء تنفيذها الى حد الساعة للاسف الشديد.؟!
وفي ظل هذه التطورات و في خضم الاحداث المستمرة ووضوح الرؤية كثر فأكثر بشأن الحملة العسكرية الروسية واهدافها الحقيقية في اوكرانيا تغير مفهوم القيم الآن بين ما يراه الساسة الغربيون وما تراه شعوب العالم بأسره بما فيها الشعوب الاوروبية والشعب الامريكي. فرغم التضليل الاعلامي الغربي للحقائق وما يجري في الميدان فان الحرب الجارية في اوكرانيا كشفت النقاب عن كثير من التزيف الغربي للقيم ومعانيها الحقيقية.
لا نعرف كيف ستنتهي هذه الحرب التي اتمنى شخصيا ان تحسم في اقرب الاجال الممكنة لانقاذ ما يمكن انقاذه من ارواح بشرية اوكرانية لم تشارك بشكل او بآخر في اتخاذ قرار انتحاري زج ببلدهم المعروف بتاريخه وتقاليده العريقة في هذه المواجهة العسكرية مع دولة جارة كانوا قبل سنوات قليلة خلت جزءا لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي والسكاني.
تجربة حرب اوكراينا فضحت الغرب وقيمه وأفقدته مصداقيته واهميته ساسيا وعسكريا وحتى اخلاقيا وادبيا. ولا شك ان المدافعين عن الغرب وفلسفته سيجدون صعوبات جمة في اعادة الاعتبار لهذا الفقدان الكبير.
اخيرا اؤكد ما أؤمن به في قرارة نفسي دائما : نعم لحرية الشعوب في تقرير مصيرها وممارسة شعائرها الدينية والقومية وتعلم لغاتها والحفاظ على تقاليدها وتاريخها لكن في اطار المدنية والتحضر بعيدا عن الشوفينية العرقية والتشدد القومي والتطرف الديني , لان القيم الانسانية كما هو واضح في التعريف العالمي لها هي ببساطة: الالتزام بالاخلاقيات و السلوكيات المتحضرة واحترام الاخرين مهما كانت طبيعة الخلافات التي تنشب هنا وهناك من حين لآخر. وفوق هذا وذاك الالتزام بمعايير ثابتة واحدة بعيدا كل البعد عما اصبح يعرف عند العالم با “ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين.” ا
تمنى ان يستخلص الغربيون العبرة والدروس ويعودوا الى صوابهم في الدفاع عن “القيم” …
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0