جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
فى كل عيد يأتى يأخذنى الحنين إلى صوت أمى وهو يتردد محبا طيبا بينما توقظنى ملحة لكى ألحق بصلاة العيد :”ياللا .. حتتأخر على صلاة العيد”، إعتقدت دوما أنه نداء أبدى سيظل حاضرا لا ينقطع فهو يصاحب كل عيد ويبدأ مبكرا ويتكرر مرتين أو ثلاثة حتى تنجح فى إيقاظى ثم لأجد – كما اعتدت – أن الوقت لازال مبكرا نسبيا، هكذا يكون ندائها الثالث والأخير ملحا حين تجد أن أول صوت تكبير قد انطلق من المسجد القريب المواجه لدار جدى، هذا أول مشاهد الأعياد التى من تكرارها وتواترها إطمأننت تماما لدوامها ولم لا وقد ظلت ترافقنى سنوات طوال طفلا وشابا وكهلا كأنها عهد حياة، هو صوت أمى يترقرق نحوى فى كل صباح عيد، ثم هاهى الحياة تصنع طريقتها المثلى وتمضى بنا وقد مرت أعياد كثيرة وسنوات غاب فيها صوت أمى.
فى طريقى مسافرا نحو دار جدى وحيث العائلة تتردد أغنية أم كلثوم كشارة ملازمة “هلالك هل لعينينا فرحنا له وغنينا”، أنظر نحو المارين بود وكأننى أعرفهم جميعا، قبلها لا يكتمل إغلاق الحقيبة وطقس الإستعداد للعيد سوى بالبحث عن ذلك الجلباب الأبيض الناصع الذى أهداه لى أبى ويرافقنى فى ذهابى نحو دار جدى وحييث أبى، جلباب العيد، أستخرجه مطويا بعناية أتجاسر أحيانا فأتشممه فأقول حقا هى رائحة العيد، للأعياد روائحها ومهما مضت الأيام هكذا أتيقن، هى روائح حضور من أحببت، أؤكد ذلك، أعرفها تماما فى جلباب أبى كما فى صوت أمى.
يحتشد المسجد الريفى العتيق بالوجوه المألوفة من الأقارب والجيران، وجوه تجتمع كل عيد كأـنه موعد اجتماع الشمل الذى لايخلفه أحد، المغادر والبعيد والمسافر والمهاجر، يلتقون من جديد ليعقدوا أواصر الرؤية واللقاء تتجدد مع العيد، بينما الأطفال يملأون الجنبات صخبا وابتسامات الجميع تتنقل فى الهواء كعنصر فى تكوينه لا تنفرط.
ستكون جملة أمى التالية فى صباح العيد ذاته هى حين نعود من الصلاة: “لازم تاكل حاجة إكسر صيامك” هى الجملة التى تدلف بها أمى نحوى أنا النحيف تماما – حينها- الممتنع عن شرب الحليب وكل تكويناته بسبب ما خامرنى من انزعاج طفولى ظل معى بشأن رائحته الثقيلة – هكذا ظننت – يتواصل نداء أمى نحوى طفلا وهى تمد يدها بطبق لتشجعنى على “كسر الصيام” تتناثر فيه حبات البيض المقلية على أرضية من الزبدة الساخنة وقد أخذ الغلاف الأبيض لونا ذهبيا، هكذا استجيب متتبعا أثر الرائحة وبهاء الشكل.
تتجاور أطباق الفطار و”رصة” الخبز الكبير الشهى على المنضدة فى الغرفة الكبيرة التى يطل شباكها على المسجد مفتوحا بينما يدخل الزوار بلا استئذان من باب الدار المفتوح دوما إلى ساحة البيت والغرفة ما شاء لهم مرورهم مهنئين بالعيد ليستجيب البعض بأن يكسر صيامه ولو بلقيمات عابرة، ستكون أكواب الشاى قد بدأت فى الحضور ليكتمل طقس الإفطار الذى يحمل طعم وشكل العيد ويستقر فىالذاكرة لايبارح.
لم تتغير طقوس صباح العيد عند أمى كثيرا بوفاة جدى فقد واظب أبى كل عيد على أن يسبقنا إلى بيت الجد ويصنع الطقوس ذاتها ثم يجلس ينتظر أبنائه الذين يجتمع شملهم معا وأسرهم على قلب رجل واحد متجهين إليه يوم وقفة العيد، يتناولون معه إفطار آخر يوم أو يومين من رمضان ثم يحضرون معه العيد طقسا لا يتغير قط، حتى عندما رحل أبى ظلت أمى تصنع الطقوس ذاتها وإن اختلف المكان حينا، يجتمع الشمل ويكون صباح العيد فأستمع إلى الجملة ذاتها تطرق الباب وتنادى: ” حاتتأخروا .. صلاة العيد بدأت” أكون حينها مستيقظا ولكننى أترقب متلهفا تلك الجملة التى تؤذن لى بأنه العيد.
مرت أيام وسنوات منذ رحيل أمى وجاء العيد كثيرا وفى كل صباح عيد أظل منصتا لعل صوت أمى يأتى نحوى ليوقظنى فأقول ملبيا مسرعا ” أنا خلاص صحيت” ثم لأذهب نحوها فتحضننى، أقبل رأسها فأسمعها تهمس فى حنو طيب: “كل سنه وانت طيب يا ابنى”.