بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أصبحت صحة الرئيس الفلسطيني محمود عباس محل اهتمام الفلسطينيين جميعاً، وغيرهم من صناع القرار المحلي والإسرائيلي، والدولي والإقليمي، فقد شغل المراقبين والمتابعين، والمحبين والكارهين، والطامعين والطامحين، والخصوم والمتنافسين، وعامة الفلسطينيين وخاصتهم، وأقلقت الأخبار المتداولة يومياً عن صحته المعنيين بالقضية الفلسطينية، والمهتمين بشأن السلطة الفلسطينية ودورها، وباتوا يترقبون أخباره وينتظرون ظهوره عليهم بصوته وصورته، أو بشخصه وهيأته، فيطمئنهم أنه ما زال ينعم بصحته، وأنه يستطيع ممارسة مهامه والقيام بواجباته، وأنه ما زال يتمتع بصلاحياته ويتحكم بسلطاته ويسيطر على قراراته.
لكن الحقيقة التي لا نستطيع أن ننكرها أو أن نتجاهلها، أن يد القدر سبحانه وتعالى تعمل، وأن سنة الله عز وجل ماضية، فالصحة مآلها السقم، والحياة خاتمتها الموت، والمال إلى زوال، والسلطة إلى تفكك، والخطى إلى القبر تقترب، شاء الإنسان أم أبى، فلا حول لنا ولا قوة، ولن يؤخر حبٌ في موت عزيزٍ، ولن يعجل كرهٌ في فناء مكروهٍ، والرئيس الفلسطيني محمود عباس قد تجاوز عمره السابعة والثمانين عاماً، وهو يعاني من أمراض عديدة، ويتناول أدوية كثيرة، يأمل منها أن تحافظ على صحته وسلامته، وأن تشفيه من بعض ما يعاني ويشكو، والأعمار بيد الله عز وجل، فشافاه الله وعافاه، وأطال عمره وأحسن خاتمته، وقدر الله دوماً أسبق.
لكننا أمام حقائق موضوعية وسنن إلهية، والأخبار باتت شبه متواترة، وعلى درجةٍ عاليةٍ من الصحة والدقة، فالرئيس غائبٌ عن الصورة، فلا يُرى ولا يُسمع، ولا يشارك في أنشطة ولا يظهر في فعاليات، ولا يعقب ولا يصرح، ولا يزور ولا يزار، ولا يستقبل ولا يودع، وزاد في الأمر غموضاً وتعقيداً محاولاتُ إظهاره الزائفة، ودبلجات صوته المكشوفة، والأخبار المغلوطة والمتناقضة، فهذه كلها تشير أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن في المقاطعة ما يخشى المسؤولون من إعلانه والكشف عنه، فالإعلان عنه قبل التهيئة صدمة، والكشف عنه قبل الترتيب فوضى.
الأمر لا يتعلق فقط بالموت والحياة، والغياب القسري والوفاة الطبيعية، بل يتعلق في حال تجاوز الموت الذي لا مفر منه، إلى الصلاحية والقدرة، والصحة والأهلية، الأمر الذي يجعل الساحة الفلسطينية أمام خياراتٍ ثلاث لا رابع لها، فإما أن يكون الرئيس الفلسطيني قد توفي فعلاً أو أنه على فراش الموت، وأن المعنيين منشغلون في الإخراج والتسوية، أو أنه أمام الاستقالة الجبرية لتدهور الصحة وفقدان الأهلية، وتسليم “الأمانة” إلى غيره، أو أن يبقى صورةً تحكم وتوقيعاً يرسم، وتوكل القيادة الفعلية إلى فريقٍ حوله، ممن يعلمون حالته ويعرفون كيف يسيرون الأوضاع باسمه، كما لو كان بينهم فاعلاً يأمر وينهى، ويصدر القرارات ويوقع المراسيم.
الأمر بالنسبة لكثيرين جللٌ وكبيرٌ، وهو ليس بالهين ولا باليسير، فأولئك الذين رهنوا القضية الفلسطينية برموزٍ وأشخاص، وضبطوا السياسة بسلطةٍ واتفاقيات، وكبلوا الشعب بالتزاماتٍ وتعهدات، يشعرون بأنهم أمام استحقاقٍ كبيرٍ وحقيقة صعبة، وأن الأمور قد تفلت من أيديهم بسرعةٍ كبيرةٍ، فضبط الشارع الفلسطيني أمرٌ صعبٌ، وإجبار الشعب على القبول برئيسٍ جديدٍ وقائدٍ آخر مفروض بالقوة ومسمى من الخارج، أمرٌ في غاية الصعوبة وفيه جانب كبير من المغامرة والمجازفة، فهم يتطلعون إلى رئيسٍ يسهل التعامل معه، ويتفق معهم ولا يختلف مع سياساتهم، ولا يتصدى لهم ولا يعارض قراراتهم، بل يتعاون معهم ويخدمهم، ويكون أميناً على الالتزامات ووصياً على التعهدات.
إن كان الأوصياء على القضية الفلسطينية قلقين وخائفين، ويجتمعون وينسقون، ويقترحون ويرجحون، فإن الفلسطينيين المتنافسين على السلطة، الساعين إلى وراثة الرئيس الفلسطيني، متنازعون فيما بينهم، ومنقسمون على أنفسهم، لا تجتمع لهم كلمة، ولا يتفق لهم رأي، بل يتكتلون ويتحزبون، ويشكلون مراكز قوى وعوامل تأثير، فبعضهم طاردٌ وغيرهم جاذبٌ، وهناك بقايا القيادة التاريخية لفتح وقادة الأجهزة الأمنية، وأصحاب النفوذ القدامى والرموز المهمشة، التي لم يعد لها في ظل الرئيس محمود عباس دور أو حصة، ولكن طموحاتهم لم تنتهِ، وأحلامهم لم تَمُت، بل ما زالوا يتربصون في أماكنهم، وينتظرون اللحظة المنافسة للهجوم والانقضاض، وهم أكثرية أقوياءٌ، وإن كانوا خصوماً متشاكسين، وأنداداً غير متفقين.
لن يقبل الأوصياء والأعداء، ولا المتنافسون والمرشحون، بتطبيق القانون الأساسي الفلسطيني “الدستور”، ويسلموا السلطة لرئيس المجلس التشريعي الفلسطيني المنتخب د. عزيز دويك، تماماً كما حصل مع روحي فتوح الذي كان يشغل ذات المنصب عند وفاة الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، ولعلهم لا يخالفون الدستور الفلسطيني لأول مرةٍ، إذ دأبوا على مخالفته كثيراً، وعدم الاعتماد عليه أبداً، وعليه فلا ينتظرن أحدٌ تطبيق الدستور، والانتقال السلس السلطة، تمهيداً لانتخاباتٍ رئاسية جديدة.
إن اليوم التالي لغياب الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيكون يوماً مختلفاً، فيه ستطلع الشمس من مشرقها، ولكن التطورات لن تكون عاديةً، ولن تغرب شمس الأحداث بسهولةٍ في مغربها، فقد تتفلت الأجهزة الأمنية، وتخرج عناصرها عن السيطرة، وفيهم من المقاومين الكثير، ومن المعادن الوطنية النفسية الطاهرة التي تحن إلى ماضيها التليد وأصلها الناصع، وقد تندلع اشتباكاتٌ بين المتنافسين، تستخدم فيها الأسلحة النارية، ولدى المتنافسين ما يكفيهم من السلاح والأزلام لخلق معركةٍ وخوض اشتباك.
أما الفلسطينيون فإنهم حتماً سيرفضون مرشحي العدو والأوصياء الدوليين والإقليميين، ولن يقبلوا “بكرازاي” فلسطيني يعينه العدو وتباركه القوى العظمى، وتعترف به الأنظمة العربية وتمنحه شرعيتها الرسمية، وهي شرعية جبرية وسلطة واقعية، تمارس بالقهر وتفرض بالقوة.
وسيكون للقوى الفلسطينية الفاعلة كلمتها الوطنية ورأيها المستقل، وعندها من السبل والآليات للتعبير عن رأيها وفرض قرارها، وهي على الأرض فاعلة وعندها الأغلبية، ومعها الكثير من أحرار حركة فتح الغيورين على قضيتهم، والمتطلعين لاستعادة دورهم الرائد.
اليوم التالي لغياب الرئيس الفلسطيني ينبغي أن يكون يوم ميلادٍ جديدٍ، وبداية تاريخٍ مختلف، تخلق فيه قيادة رشيدة وزعامة وطنية مستقلة، تصحح المسيرة وتصوب القرار، إذ لن يقبل فلسطينيٌ حرٌ أن ينساق كالقطيع وراء راعٍ جديدٍ يفتقر إلى الشرعية، وتعوزه الوطنية، ولا يوجد في سجله ما يشرف، ولا يتمتع بأكثر من التنسيق والتخابر، سبيلاً للبقاء وعاملاً للتميز، يرشحه غيرنا، ويفرضه علينا أعداؤنا.