في الوقت الذي ردّت فيه واشنطن على الاجتياح الروسي لأرض دولة أوكرانيا، منذ اللحظة الأولى، بكل ما أمكنها من قرارات تهدف إلى الضغط على موسكو من أجل وقف عدوانها على جارتها، وبذلت وما زالت تبذل أقصى جهدها؛ بهدف زجّ كلّ من يمكنها زجّها من دول العالم، ضمن إطار ما تسعى إليه من فرض الحصار الاقتصادي على روسيا، في الوقت نفسه تغمض عينَيها الاثنتين عمّا ترتكبه قوات الاحتلال الإسرائيلي من جرائم حرب يومية، في كل من القدس والضفة الغربية، هذا على الرغم من أن الاحتلال مضت عليه مدة خمس وخمسين سنة بالتمام والكمال، فيما لم يمض على احتلال روسيا لبعض مناطق أوكرانيا سوى أقل من خمسة أشهر!
والولايات المتحدة تسعى، من خلال ردة فعلها على العملية الروسية في أوكرانيا، إلى محاولة إعادة مكانتها التي تتآكل كدولة تجلس على عرش النظام العالمي الذي تشكل بعد انتهاء الحرب الباردة، وذلك على الرغم من كل التطورات السياسية والاقتصادية التي اجتاحت العالم بأسره، والأهم ما شهده العالم خلال ثلاثة عقود مضت من ثورة في الاتصالات العالمية، أحدثت انقلاباً في الاقتصاد العالمي نفسه، بحيث أدخلت حقولاً جديدة للثروة العالمية، لم تعد مادتها المواد الخام، ولا التصنيع، بل «الهايتك»، والبرمجيات وبرامج الاتصالات وما إلى ذلك، فيما قيادة العالم تتطلب مع هذا التحول في الوعي البشري إلى قيادة أخلاقية، لم يعد بمقدورها الاعتماد على قوتها العسكرية لفرض مكانتها وسيطرتها، وهكذا فإن واشنطن تفتقد للعدالة الواجب توفرها في مَن يقود العالم.
وفي حين نظرت واشنطن بعينها الحمراء للاحتلال الروسي لبعض أوكرانيا، هي لا تغمض عينها اليسرى فقط تجاه جرائم الاحتلال الإسرائيلي الواضحة للعيان، والتي يجري تناقلها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل إنها تبدي ضعفاً غريباً تجاه تل أبيب، حتى والدولة العبرية تستخف بها فيما يخص موقفها من الحرب الروسية/الأوكرانية، ولا يظهر البيت الأبيض أي شعور بالحرج، وهو يعلن أنه ليس هناك جدول زمني لإعادة فتح قنصليته في القدس الشرقية المحتلة، أي وهو يتنصل حتى مما كان قد وعد به، دون أن يكرهه أحد على ذلك، بل أكثر من هذا أظهرت إدارة جو بايدن ضعفاً واضحاً تجاه إسرائيل فيما يخص تحقيق هدفها بالعودة للعمل بالاتفاق النووي مع إيران، الذي وقّعته إدارة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما الذي كان بايدن نائباً له!
وكأن إدارة بايدن، على عكس المتوقع، فشلت حتى اللحظة في التصدي لأيّ موقف كان فيه خلاف بينها وبين إسرائيل، وإسرائيل في ذروة تطرفها الرسمي اليميني/الديني، وفي لحظة تمارس فيها ذروة التطرف الميداني اليومي، وجلّ ما تحاول الحصول عليه حالياً إدارة بايدن استجداء موقف إسرائيلي يخفف من سلوكها التوتيري فقط خلال زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، والتي من المقرر أن تجري منتصف تموز القادم!
وحتى زيارة بايدن لم تخلُ من رشوة لإسرائيل، تتمثل في محاولة إضافة هدف آخر للزيارة التي تشمل السعودية، وذلك بالإضافة إلى الهدف الاقتصادي الخاص بالنفط، وهو الدفع بمسار التطبيع بين الدولة العربية المهمة عربياً وإسلامياً، وبين إسرائيل.
لكن إسرائيل غير قابلة لتضميد جرح بايدن الذي يبدو، وبأسرع من المتوقع، أضعف مما بدا عليه عشية فوزه بانتخابات الرئاسة قبل عام ونصف العام، والذي فشل حتى الآن في إنجاز هدف العودة لاتفاق 2015 مع إيران، كذلك أظهر ارتباكاً في سحب قواته من أفغانستان، ويبدي الضعف كله إزاء الملف الفلسطيني/الإسرائيلي، حيث فشل حتى اللحظة في تنفيذ تعهده بإعادة فتح القنصلية في القدس، وتهدئة الأمور وإعادة الثقة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كما تعهد، وليس كما يجب، لأن الواجب يفرض إعادة التفاوض للشروع بتنفيذ حل الدولتين الذي ما زالت تتشدق به واشنطن، التي في الوقت الذي أخرجت فيه منظمات يهودية يعتبرها الإسرائيليون أنفسهم إرهابية من قوائمها للإرهاب، ما زالت تواصل فيه إغلاق مكتب م.ت.ف في واشنطن!
وإسرائيل لا تبدي أي قدر من التراجع عن مسار ارتكاب أقصى قدر من التطرف الميداني، وذلك لأنها بعد عام من تشكل الحكومة من قبل «كوكتيل» حزبي، لم يتغير الجوهر اليميني للحكومات الإسرائيلية منذ عقد ونصف العقد، تلك الحكومات التي قطعت الطريق على التفاوض، وأطلقت العنان للاستيطان، لأنها أيضاً تعيش الآن حالة ترقب لانهيارها في أي لحظة، والدخول إلى متاهة الانتخابات التي عاشتها إسرائيل مدة عامين جرت خلالهما أربعة انتخابات غير حاسمة، ورئيس الحكومة اليميني المتطرف نفتالي بينيت، الذي سرعان ما قبض على مقاليد الحكم، رغم ما بدا عليه من ضعف أول تشكيل الحكومة؛ نظراً لقلة عدد نواب حزبه، بل وأحزاب اليمين الثلاثة كلها بين أحزاب الوسط واليسار التي شكلت الحكومة وبالمقارنة مع كل من يائير لابيد وبيني غانتس المحنكَين في السياسة، بينيت هذا يريد أن يبقى أطول مدة ممكنة كرئيس للحكومة، رغم ما تبدو عليه من ضعف.
لم لا بالطبع وهو عايش عرّابه بنيامين نتنياهو يجلس على المقعد الأول كمن يمشي على الحبال، خاصة خلال سنوات الانتخابات المتعاقبة، وهو أيضاً يدرك جيداً أن حبله السري ما زال مربوطاً بالمستوطنين خاصة، وباليمين عموماً، لذا فهو يقول اليوم: إنه قد حافظ على تراث ومنجز اليمين الإسرائيلي، رغم نجاح خصوم نتنياهو في تشكيل الحكومة البديلة، وإنه لم يكن دمية بيد لابيد؛ لأنه فقط أراد المنصب دون أن يظفر بمحتواه، بل على العكس هو الذي ضحك على خصومه/شركائه في الحكم، وهو نجح في قيادة حكومة أكثر يمينية من حكومات نتنياهو، رغماً عن لابيد وغانتس، وحتى «العمل» و»ميرتس» المشاركين في الحكومة، بل والذين يشكلون أغلبيتها!
والأيام العشرة القادمة تنطوي على خطر بالغ؛ نظراً للعبة عض الأصابع، بل أيضاً لما تتمتع به الأحزاب الإسرائيلية من انتهازية سياسية، حيث إن آخر الشهر الجاري هو الموعد الأخير للعمل بنظام الطوارئ المطبق في الضفة الغربية بجوهره العنصري الذي يميز بين المواطنين الفلسطينيين والمستوطنين، حيث يتعامل مع المستوطنين كمواطنين إسرائيليين رغم إقامتهم خارج حدود إسرائيل، أو خارج نطاق حدودها القانونية، حيث تعتبر الحكومة التصويت على تمديد العمل بالقانون مدة خمس سنوات أخرى بمثابة تصويت على الثقة بالحكومة، فيما ترى فيه المعارضة فرصة لإسقاطها، وإن لم يمر التصويت على القانون، كما تريد الحكومة، فإن حجب الثقة أولاً ينقل رئاسة الوزراء إلى لابيد، الذي سيظل رئيس وزراء حتى تجري الانتخابات وتنتهي بالنجاح في تشكيل حكومة أخرى، أو أنه يفتح الباب في ظل عدم قدرة المعارضة على تشكيل حكومة، لإعادة اصطفافات غريبة، منها أن يتحالف بينيت مع نتنياهو ليشكلا حكومة يمين صرفة، دون حتى «شاس» و»يهوديت هتوارة».
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0