• بصفتك شاهد عيان وبيان على المشهد الثقافي، كيف تراه اليوم؟ وما سبب ما آل إليه؟ وهل هي علامات قوة أم ضعف؟
••المشهد الثقافي الآن لا أراه الاّ متردياً، ومتراجعاً كثيراً عما كان عليه مثلاً قبل عقدٍ من الزمان، وما أعني به هو الحركة الأدبية والثقافية، والفنية، في كليّة نشاطها المؤسسي والمستقل لا في جزئيتها..أو فرديتها..أو اجتهاداتها ونتاجاتها الإبداعية الخاصة. كنّا نأمل أن تشهد الحركة الثقافية زخماً قوياً وتوهجاً أكبر في سياق التحول الوطني الجديد الذي أرسته الرؤية الطموحة 2030، لكن كما يبدو لي فإن بعض القيادات الثقافية لم تكن على مستوى الطموحات والغايات التي رامتها الرؤية. أي نعم هناك تجديد للمفاهيم والرؤى على المستوى الفني البصري والسمعي (الحركة الفنية) وانعكاسه الواضح على الحراك المجتمعي، وهناك حراك في مفاهيم الترفيه الغنائي والمسرحي والسينمائي، لكن كلها الآن تخضع في دوائرها الاستهلاكية غير المنتجة.. والمشهد الثقافي لا يُختزل في هذا الجانب الفني وحده بالطبع فهو جزء من الفسيفساء الثقافية الكبرى.
المحزن أن المؤسسات الثقافية التي يفترض أن تضطلع بدور متجاوز للمتوقع مهجورة وقياداتها الثقافية متخلفة عن نبض التحوّل الجديد ونشاطاتها شبه معدومة، وحركة الإبداع والنشر تمضي في سياقات الاجتهادات الخاصة، والجمعيات الثقافية الفنية، تستميت بقدرات ذاتية ومالية ضئيلة في التعبير عن الحالة الثقافية عبر مبادرات فردية وشللية تفتقد كثيراً الاستمرارية والشمولية.
• بماذا يستعيد المثقف دوره الوطني والإنساني؟ وأين تقع الثقافة بين معطيات المجتمعات في هذا العصر؟
•• على مر التاريخ الحديث كان للمثقف دوره الوطني والإنساني وما زال له هذا الدور. ليس هناك ما يمكن استعادته من دورٍ مفقود.. المفقود في نظري هو تاريخية الرؤية، والدور، بمعنى لا يمكن للمثقف أن يؤدي دوراً ما وطنياً، وإنسانياً في ظل المفاهيم القديمة نفسها، والعلاقات الثقافيةالمجتمعية ذاتها التي تبقي على الكينونة القدسية والاستعلائية للمثقف على المجتمع والواقع..لا بد من علاقة جدلية جديدة يتعلم فيها المثقف من محيطه الاجتماعي بالقدر ذاته الذي يتعلم فيه من مصادره المعرفية ومن كتبه وقراءاته. إن الوعي التاريخي وفهم حقيقة العصر ومتغيراته، وجدليات التحول المعرفي والتقني هو في نظري ما يسهم في تأجيج دور تجديدي للمثقف.
• متى تضع يدك على قلبك خشيةً على الإبداع من انتساب غير أهله إليه؟
•• الإبداع كما أفهمه هو الخلق الجديد.. أن تبدع يعني أن تنتج شيئاً جديداً من عدم.
ومفردة العدم هنا فيها قولان لا أعني به في مطلقيته بل في نسبيته.. لكني استدرك وأقول أن الإبداع، سواءً أكان نصاً شعرياً أم سردياً، هو انزياح عن الواقع، لا محاكاة له، ولا انعكاس مرآوي له.
إذا تحقق هذا الانزياح الخلاّق اتسم النص بإبداعيته وإضافيته كشرط أولي.. والخيال شرطه الثاني، وإذا كان انعكاساً سطحياً محاكاة أرسطية لواقعه انتفت إبداعيته وتحققت مباشريته أو تقريريته..أو إخباريته. هناك نصوص شعرية، وسردية تسقط بشكلٍ فج في هذه الصورة من الكتابة فتصبح وصفاً لواقع لا سبراً له، وبالتالي لا أعدها ابداعاً حقيقياً محققاً لنوعيته.
ولعلني استحضر هنا مقولة الكاتب والناقد الألماني (كارل فيليب موريتس) عن ماهية الإبداع وقد استشهد بها كاتبنا الكبير عابد خزندار في كتابه العلامة (الإبداع): «إن الشيء النفعي لا يمكن أن يكون جميلاً لأنه يمنحنا بعض البهجة. هذا لا يعني أن كل ما هو نفعي أو غائب سيكون جميلاً، إلا أنّ ما يمنحنا البهجة دون أن يكون في حد ذاته نفعياً نسميه جميلاً».
إذاً حين يكون النص خلقاً جديداً وخيالاً وجمالاً، وبمفهوم نقدي حين تجتمع في النص ابتداعيته، وتخييلاته، وجمالياته يصبح إبداعاً خالصاً.
وأني لأضع يدي على قلبي حين أطالع نصاً «إبداعياً» لا تتحقق فيه كل هذه الشروط الإبداعية.
•ماذا أضافت التقنية للثقافة، وماذا سلبت منها؟
•• لا شك أن التقنية السبرانية في ثوراتها المستمرة، واللانهائية أفادت البعد الثقافي في عملياته، وسيروراته، وتجلياته بشكلٍ كبير لا يمكن إنكاره البتة، من أهم هذه الإفادات أن وضعت هذا البعد الثقافي، في صورته المنكشفة ضمن كل سياقات الأبعاد الاقتصادية والسياسية والإعلامية ولم يكن في جزيرة منعزلة كما كان خارج هذا الحضور التقني.
الثقافة صارت متاحة ومباحة كما لم تكن من قبل.. إلاّ أنها فقدت قسطاً كبيراً من فاعليتها وخصوصياتها.. ودهشتها.
المفارقة العجيبة تتمثل في اتساع انسراباتها وتعددية، تمظهراتها، وسهولة القبض عليها في ظل انحسار شديد لتأثيراتها الملموسة والمباشرة..
• إلى أي مستوى تشعر بالرضا عن القصة القصيرة المعاصرة؟
•• القصة القصيرة عربياً وعالمياً ما زالت بعافية، وفي أشد حالاتها حضوراً وتموضعاً في حقل السرديات المعاصرة. اختفت قليلاً وتريثت وتأملت المزاجات السردية، وراجعت نفسها فنياً في فترة اقتحامات التسونامي الروائي إنْ على المستوى العربي أم العالمي، حتى اضطر بعض النقاد أن يعلن صراحةً بأن الزمن زمن الرواية.. لكن الواقع غير هذا تماماً، نعم الرواية جنس سردي متمدد من القصة، لكني اعتبر أن القصة هي ربة السرد حتى الآن.
المطلع على الآداب العالمية يكتشف أن هناك انتاجاً محتدماً متوارياً ومتواصلاً للقصة القصيرة غير أن القصة القصيرة بفنيتها وعمقها الإنساني وأفقها الجمالي وشعريتها وتجديداتها الشكلانية، صارت تستهوي النخبة الأدبية خلافاً للرواية التي وسّعت من جاذبيتها الشعبوية على حساب جمالياتها حتى صارت جنساً أدبياً شعبوياً أكثر منه نخبوياً.
• هل تضاءل دور الناقد؟ أم اختفى؟ وما خطورة النقد النفعي على الحراك الثقافي؟
•• الناقد يتضاءل دوره حين لا يواكب حركة الإبداع المحتدمة حوله.. حين يسدّ أذنيه عن سماع دبيب التفاعل الإبداعي والثقافي.. حين يصبح غير قادر على تجديد مناهجه وأدواته.. ويعجز عن إنتاج نص مبدع موازٍ.. وحين يتناول النص الإبداعي بمنهج أكاديمي جاف سابق.. غير قادرٍ على استنباط المنهج والرؤية النقدية من نسيج النص ذاته، ومن معطياته اللغوية والفنية.
دائرة التفاؤل تضيق أكثر حين يصبح الناقد عبئاً على النص معتماً لتخومه لا مضيئاً لدهاليزه ودروبه.
• ماذا قلت عندما انفصلت الثقافة عن الإعلام؟
•• قلت هذه خطوة في الاتجاه الصحيح، وما زلت أعوّل كثيراً على استقلالية وزارة الثقافة، وتكريس دورها بشكل أكثر زخماً مما هي عليه الآن؛ لاستنهاض المشروع الثقافي الإستراتيجي الذي وُضعت معالمه وأسسه منذ عقدٍ ونيف.
آمل إما باستئناف المشروع الثقافي الإستراتيجى الذي وضعته وزارة الإعلام والثقافة قبل أعوام، بمشاركة موسعة من النوادي الأدبية وأدبائها ومثقفيها، أو استنبات مشروع ثقافي وعقد ثقافي جديدين يحققان المعنى الكامل لاستقلالية العمل الثقافي النسبية وتجذير ديموقراطيته.
أنني آمل واتأمل خيراً في القيادة الثقافية الجديدة وعلى رأسها وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان.
آمل أن تكون الثقافة على مستوى تحدي طموحات التحول الباهر الذي يعيشه بلدنا في ظل رؤية 2030 الطموحة.
آمل أن تكون الثقافة خبزاً يومياً يتناوله كل منا برغبة واشتهاء.
آمل أن تكون الثقافة هي المقدمات الأولى الدالة على مستوى التطور الحياتي والمجتمعي الذي تعيشه وتنعم به بلادنا.
آمل أن تكون الثقافة هي المدخل الرئيس لفهم حاضرنا ومستقبلنا.. إنني آمل والآمال بوسع الحب، والشغف لمستقبل واعد وجديد.
• ما الصورة المُثلى للتحولات الاجتماعية التي تتطلع إليها؛ مثقفاً ومواطناً؟
•• التحولات الثقافية هي مقدمات للتحولات الاجتماعية.. ثم تمضيان لاحقاً في جدلية متناغمة بالضرورة.
لقد قلت ذات مرة: بعد الانزياحات الشكلية التي حصلت في واقعنا الاجتماعي مؤخراً وعلى الأقل منها ما بين الخطاب الديني المتشدد والتصورات المغلقة والمعادية للثقافة، وبين الخطاب المدني ناهضاً من جديد وتصوراته العصرية المنفتحة على العالم الثقافي الكوني يبدو لي أن صار لزاماً على المثقف السعودي النظر الى مستقبل الثقافة بشكلٍ آخر.
ومن هنا نؤكد على أن إحدى أهم غايات التحول الاجتماعي الجديد الذي نحتاج، هو العمل بشكل جذري على وضع حد للتيار المعادي للثقافة، والمتشدد في خطاباته وتصوراته العقدية كي لا يكون قيداً على الإبداع الثقافي والفكري وبالموازاة، تحجيم دوره في الرقابة على الحياة الاجتماعية، والحراك الثقافي، فكفى أن تجمدت وتكلست هذه الحياة في بعديها طيلة العقود الثلاثة الماضية، وقد أحدثت ما أحدثت من الخراب العقلي والانفصام الفكري بيننا وبين الآخر المتحضر بداعٍ متهافت، وزائف هو حراستنا من «التغريب» وحراسة هويتنا وخصوصيتنا من الانكشاف والتفتيت في اللحظة التي سعت وسائل الميديا الجديدة المنفلتة من عقالها إلى اكتساح الخصوصيات والهويات وكسر دوائرها المغلقة..!
لقد هيأ الشرط الاجتماعي الجديد وانفتاح أفق رؤية 2030 في تهيئة الكيفيات والظروف الملائمة لتغيير ثقافي حقيقي يجذب المثقف إلى التفكير الجدي في المشاركة والوعي بضرورة إحداث نقلة نوعية في الحياة الثقافية والفنية.