تتجسّد قسوة الحياة في منظر تلك الفتاة. تلك الصفرة التي تعتلي بشرة وجهها وكفَّي يديها تجعلك توقن أنها لا تحصل على تغذية جيدة، كما أن كفَّيها متشققتان فتتأكد أنها تمارس أعمالاً منزلية بمواد تنظيف رخيصة. وحين ترى شعرها المتهالك الهش، توقن أنه كان من الممكن لها أن تكون من هؤلاء النسوة الجميلات اللواتي لا يفعلن شيئاً سوى الوقوف أمام المرآة والعناية بجمالهن.
كل ذلك تراه وأنت ترى اللؤلؤ المتساقط من عينيها، وتشعر به كأنه جمرات من النار تسقط في قعر قلبك، تجلس في الركن وتبكي، ترفض الجلوس إلى كرسي بلاستيكي قديم وقذر من تلك الكراسي التي يتم تأجيرها لبيوت العزاء، ولكنها تجلس لتسند ظهرها في وضع الجلوس إلى قائم خشبي لـ”عريشة” في باحة البيت الصغير، وكأنها ترى أن هذا القائم الخشبي هو السند بعد أن ذاب كل البشر أمام ناظريها.
قالت لي مراراً: إنها ليست آسفة أنها رفضت كل عروض الزواج المغرية حتى أصبحت تصنف تحت لقب بغيض، فقد أصبحت في نهاية الثلاثينيات من عمرها، ولم تشعر بلحظة ندم حين كرّست حياتها لرعاية والدَيها المسنَّين، ولم تكن تدع نفسها لتجد لو ثغرة للاختيار، فكل ما كان يهمها وتضعه صوب عينيها أن تعتني بالعجوزين حتى النهاية.
تلك العلاقة الفريدة التي نشأت مع الأب الذي كان يتمتع بصحة جيدة رغم كبر سنه، وحين كان يعاملها كأنثاه الوحيدة، فالأم تقبع فوق حشية رقيقة في ركن من أركان البيت، ولكنه يتجاذب أطراف الحديث مع ابنته، ويشعر أنها الأنثى التي يجب أن تعنى بطفولته المتأخرة، فتدلّله وتزجره وتلبي كل طلباته، وهكذا فهي لم تحرمه من وجود الشريكة في حياته حتى آخر لحظة.
والآن، بعد سنوات قليلة على رحيل الأب، ها هي الأم ترحل بعد معاناة مع أمراض الشيخوخة، ها هي اليوم تتركها، وحسب تعبيرها، لم أكن أعلم أن هذا اليوم سيأتي سريعاً، كنت أتحمل كل شيء من متاعب وأنا أعتني بأمي، حتى آلام عظامي الرقيقة التي تكاد تتهشم كنت أتحملها، فالمهم أن تبقى تلك الأنفاس معي في ذلك الفراغ الذي لا ينتهي، والذي تطبق عليه جدران البيت الأربعة.
ولكن ذلك اليوم قد جاء، وها هي تلقي نظرة الوداع الأخيرة على أمها، وتسند ظهرها إلى القائم الخشبي، وتتركهم يحملونها إلى مثواها الأخير، وتنظر بلا مبالاة للنساء المتشحات بالسواد اللواتي قدمن لتعزيتها، وكأن لسان حالها يقول: سوف تتركني وحيدة بعد حين، وسأبقى مع ذلك العمود الخشبي إلى الأبد.
نظرتُ إليها والحريق يشتعل في قلبي، وبقيت أتساءل: ماذا ستفعل بعد اليوم؟ تساءلت كثيراً ولم أجد جواباً، فوجدتني أحمل حقيبتي الصغيرة وألثم خديها الباردين وأغادر، فلم أقوَ على ضعفي أمامي، وشعرت لوهلة أنها ستكون قوية مع القائم الخشبي الوحيد الذي تلقف وحدتها وضعفها.
سرتُ طويلاً من أمام البيت حتى موقف سيارات الأجرة التي ستحملني لأعود إلى مدينتي الواسعة، وتركت تلك القرية الصغيرة مع أهلها الطيبين، والذين كنت أقضي معهم أياماً جميلة من طفولتي، وحيث تعود أمي إليهم في كل إجازة تقرر للمدارس، فهي تعلم جيداً أنهم أهلها وأنها حتماً ستعود إليهم مهما شغلتها المدينة الواسعة، ومهما تكاثفت وجوه الغرباء حولها، فهم في النهاية الأقرب إلى القلب والروح.
اليوم أترك تلك الفتاة وحيدة مع أهل قريتها الطيبين، لم أترك أحداً ألقيت عليه السلام وكلمات العزاء إلا وأوصيته خيراً بها، وكنت أرى من بعيد أنها سوف تبقى وحيدة، فالحياة قاسية والجميع سوف ينفضّ من حولها ويذهب إلى سبيله بحثاً عن لقمة عيش أو رعاية بيت.
ونسيت أن أوصي ذلك القائم الخشبي بها خيراً، وددت لو عدت لأفعل، ولكني كنت أكثر جبناً من أن أفعل، كنت أفرّ من منظر اللؤلؤ المتناثر من عينيها، والذي ترك ناراً لا تنطفئ في قعر قلبي.
تلك الفتاة..سما حسن –
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0
هل لديك سؤال؟
تابعنا على السوشيال ميديا او اتصل بنا وسوف نرد على تساؤلاتك في اقرب وقت ممكن.