منذ عدة أعوام تُوصف الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في أراضي 1967 بأنها حصيلة “بربرية جديدة”. وهو مصطلحٌ سكّه أستاذ اللسانيات الإسرائيلي، عيدان لانداو، في مقالة نشرها في مدوّنته الخاصة عام 2018، مشيرا فيها إلى أن هذه “البربرية الجديدة” هي البربرية الإسرائيلية القديمة ذاتها، ولكن الجديد فيها أنها تُرتكب من دون خجل، نظرًا إلى أن “مستنقع الاحتلال يخلع شكلًا ويرتدي آخر. فهو هنا منذ أعوام طويلة، ونحن غارقون فيه إلى درجة أصبح من الصعب معها أن نرى التغييرات الحاصلة فيه”! على حدّ ما كتب.
وبحسب معرفتي بما يحمله هذا الأستاذ الجامعي من أفكار، أستطيع تخمين أنه تعمّد عدم استخدام عبارة “من دون تأنيب ضمير”، لأن البربرية، التي يقصدها بالمطلق في ممارسة إسرائيل، تفتقر إلى الضمير أصلًا.
ويعود أحد أسباب عدم الخجل هذا، برأيه، إلى واقع أن الجيش والمستوطنين في تلك الأراضي “هم بمثابة يد واحدة”. وهو واقعٌ يُترجم جانبًا مهمًا من تطوّرات بنيوية عميقة حدثت في إسرائيل، مرتبطة، في جانب منها، بتغيّرات ديموغرافية مجتمعية، وبتحوّلات اجتماعية في مجتمع المهاجرين الاستعماري، وبآثار إستراتيجية لاحتلال 1967. وتحت وطأة هذه التطورات، تقلصت، بشكل حادّ، أكثر فأكثر، ما تسميها الأدبيات الإسرائيلية “حرية عمل الجيش الإسرائيلي في مقابل المستوطنين”. ويُعزى هذا، من بين أمور أخرى، إلى ازدياد نسبة مُعتمري “الكيباه” (القبعة الدينية اليهودية) والمستوطنين العاملين في وحدات الجيش، سيما المنتشرة في الضفة الغربية بشكل دائم أو مؤقت (مثل “لواء المشاة”)، بالإضافة إلى القيادات المُكلفة بـ”حفظ النظام” في الضفة الغربية، بما في ذلك الإدارة المدنية. وفي أحيانٍ كثيرة، يظهر أن ولاء هؤلاء للقيادة العسكرية جزئي لا أكثر، وفي هذا يكمن أيضًا أحد عوامل انتشار البؤر الاستيطانية العشوائية وصعوبة إخلائها.
وإذا كان ما تقدّم قد تسبّب بأن يرتدي الاحتلال في أراضي 1967 في الوقت الحالي شكلًا أكثر وحشية مما كان عليه قبلًا، فإنه “أكثر بقليل فقط”، لأن سيرورة “في كل مرة أكثر بقليل فقط” أمست ثابتة ومتواصلة، ولذا يصبح من الصعب جدًا رؤية الفارق من يوم إلى آخر، سيّما على من لا يرغب في أن يجتهد.
ولئن كنّا نتحدّث عن صعوبة رؤية الفارق المذكور من أغلبية الإسرائيليين، ما عدا في حالات استثناء قليلة، فإن احتمال حدوث صدمةٍ في صفوفهم تبدو أصعب. وهذا مرتبط بالأساس بأمرين: أولًا، أن الاحتلال جزء من تكوين الإسرائيليين، وليس فقط أن لغالبيتهم دورًا وحصة، إنما هي تستفيد منه أيضًا. الثاني، أن التحرّك ضده يستلزم ثمنًا ينبغي دفعه. كما أن النضال ضدّه يعني، في الوقت ذاته، أن يكافح كل إسرائيلي، مثلما أكّد كاتب إسرائيلي ذات مرّة، ضد مجتمعه، وضد أقاربه، وأحيانا كثيرة ضد نفسه أو ضد أجزاء من شخصيته.
عندما طُلب إلى المفكر تزفيتان تودوروف، في إحدى المقابلات، أن يُعرّف البربري بموجب ما ورد في كتابه “الخوف من البرابرة”، أشار إلى أن لكلمة “بربري” بشكل عام دلالتين: الأولى نسبية لا غير، تشير إلى الأجنبي الذي لا نفهم لغته. وكل منّا في هذا المعنى بربري بالنسبة الى شخص آخر. الثانية مطلقة، تنطبق على وجه التقريب على الشخص القاسي أو المتوحش، اللّاإنساني. وأكد أنه أراد إبقاء الدلالة الثانية، مع تعريفها بشكل دقيق. وبالنسبة إليه، البربري هو الشخص الذي لا يعرف الإنسانية الكاملة للآخر، ذاك الذي يرفض أن تمنح الحقوق نفسها والكرامة نفسها التي يطالب بها لمصلحته.
وفي المحصلة، يرى لانداو أن البربرية الإسرائيلية الجديدة تمثل تدهورًا آخر في مؤشر الإنسانية الإسرائيلي. ولا يمكن وقفه والبراء منه إلا بالنظر إلى الفلسطينيين بشرا يستحقون الحياة والحقوق، مثل ما يستحقها الإسرائيلي والآخرون. وعندئذ فقط، يمكن التحرر من العبودية لنظرية “المجموع الصِّفري” التي تعني أن فائدة طرف ما ومصلحته مرهونتان بهزيمة الطرف الآخر واستسلامه.