في الثامن من ديسمبر 1987، كانت انطلاقة حركة حماس، والتي كانت علامة فارقة في التاريخ النضالي الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، إذ تحتفظ ذاكرتنا منذ ذلك اليوم المشهود المصاحب للانتفاضة الشعبية قبل 35 عاماً بالكثير من الإنجازات الوطنية، التي كانت أبرز تجلياتها إخلاء المستوطنات الصهيونية، وخروج جيش المحتلين من قطاع غزة.
كانت استراتيجية حركة حماس منذ انطلاقتها تعتمد على فعلها المقاوم للاحتلال في الميدان، ومنهجها الدعوي الذي يُنميِّ رغبات منتسبيها وتطلعاتهم نحو الجهاد والاستشهاد، مع العمل على تنمية روح التآخي والتكافل وتعزيز مشاعر أبناء الوطن الواحد، وهذا ما جعل الشارع الفلسطيني يمنح حركة حماس الأغلبية في الانتخابات التشريعية في 25 يناير 2006، وبصورة لم يتوقعها حتى الكثيرين من قيادات وكوادر الحركة.
بلا شك، كانت نتائج الانتخابات التشريعية هي الرد القوي على كلِّ من حاول الإساءة للحركة أو تشويه صفحات تاريخها. ولذلك، فليس لنا أو لغيرنا في سياق العدل والإنصاف أن يجادل في طهارة تلك الصفحات الوضيئة، التي سبقت مشهد الحكم والسياسة. وعليه، لن نُعلَّق أو نتوقف طويلاً عند “مديح الظلِّ العالي” لتلك السنوات، فهي كانت -باختصار- واحدة من أفضل فترات النضال الفلسطيني، ورجالاتها من الشهداء والمعتقلين في الزنازين هم شامات على رؤوسنا أجمعين.
انطلاقات الفصائل: كلمة لا بدَّ منها!!
جرت العادة أن يحشد كلُّ فصيل أركان حزبه ومنتسبيه وقبيلته وأنصاره ومريديه، ليباهي بهم الأمم في الجوار القريب والبعيد، ويسخِّر لهذا “اليوم الموعود” كلَّ ما يلزم من الإمكانيات المالية واللوجستية لضمان لوحات الشهود تمتلأ بها الساحات بالحضور، ولا يضاهي مشهديتها أحد سياسةً وإعلاماً، مع استعراضات زاهية للفتية الذين آمنوا بربهم من طلائع المقاومين، ثم يكون خطاب الرؤية والإنجازات، والذي تُشعرنا معه بأن ساعات “الفتح المبين” ليست عنَّا وعن فجرنا ببعيد!! وهذه النبرة قد تعودنا على سماعها منذ سنين. للأسف، لا أحد من قادة الفصائل المجللين بأعلام التنظيمات يتواضع عند الحديث عن إنجازاته وملاحمه الكبرى وانتصاراته في ساحات الوغى مع جيش الاحتلال. ولكنَّ المحزن أنَّ حجم التهويل مبالغ فيه، إذ إنَّ واقع الاحتلال وممارساته التعسفية ما تزال -عملياً- توجعنا وتُدمي كرامتنا الوطنية، وأنَّ الأماكن المقدسة تتعرض للتدنيس والتهويد المستمر، والمستوطنات تتمدد وتتوسع مُلتهمةً الأرض التي هي قلب وطننا النابض!! نعم؛ إنَّ كلَّ هذا يحدث وأكثر، وتتحمل الفصائل مجتمعة “المسؤولية الوطنية”، رغم كمِّ التضحيات ومشاهد البطولات الكبرى التي لا تتوقف لصناديد رجالات المقاومة البواسل في الميدان.
ولكن، وهذا ما أود قوله باختصار، أن هذه الانطلاقات فيها مبالغات زائدة لا تخدم “الإنجاز الوطني” الذي نطمح إليه، ولا يستفيد من بهرجتها إلا قلةٌ لها توجهاتها وحساباتها الخاصة، ثم ينفض السامر، ولا يتغير في مشهد الاحتلال والحصار شيء.
لقد تابعت لعدة شهور انطلاقات حركة فتح وحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية والمبادرة الوطنية الفلسطينية…الخ واليوم حركة حماس، وفرحنا للكلِّ ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ولكن في الحقيقة هناك غُصَّة في القلب؛ لأن جرح الوطن ما زال غائراً، والمصالحة لا يلوح “رأب صدعها” في أفق قريب، وأسرانا البواسل “أيدينا مغلولة” عن نُصرتهم بجهد الأمة الذي يليق، ولولا بعض مظاهر التضامن التي شاهدناها في “مونديال قطر”، لقلنا أنَّ عمقنا العربي قد تُودِّع منه.
إنَّ موطنَ امتعاضي من كلِّ هذه الانطلاقات لكثرتها، أنَّ الأولوية يجب ألا تُعطى اليوم لكلِّ هذه المهرجانات والاستعراضات، وكأننا نعيش كرنفالات النصر، فيما الواقع يتحدث بغير ذلك.
منذ طفولتي وشبابي وما نضج من كلِّ سنوات عمري، وأنا أشارك مع غيري فعاليات نضالية ودينية مختلفة داخل الوطن وخارجه، ولكنَّ الذي بقي في الذاكرة بعد كلِّ ذلك هو أنَّ الوطن ما زال محتلاً، وجسده قد تفتقت جراحه، واتسع خرقها على الراقع، واستعصى في ظل حسابات المصالح و”الأنا” لهذا الفصيل أو ذلك، إصلاح البيت وجمع ما تناثر من حصاه، وأصبح حالنا أقرب للحالة السريالية التي رسمتها -بكل سخرية وتهكم- كلمات الشاعر د. جواد الهشيم لتوصيف واقعنا القائم، بالقول:
هيّا… لنقتسم الوطن
ثلثٌ لنا.. ثلثٌ لكم.. ثلثٌ لمن.. قاد القطيع إلى الإحنْ!!
اليوم، نعم؛ نحن نعيش أجواء انطلاقة حركة حماس الـ 35، بكل ما تجلبه هذه الذكرى من صور ومشاهد وأحداث، عشنا سنواتها وعايشنا شهدائها وتعايشنا مع الكثيرين من معتقليها وأسراها، وتخضبت أيدينا بعطر دماء الأطهار من شبابها، ممن كانوا لمشهد التضحية والبطولة عنوان.
ولكننا اليوم، ونحن في سياق التقييم لا نتعامل مع حركة حماس كبندقية وخندق مقاومة فقط، فهناك حماس التي تتصدر مشهد الحكم والسياسة، وهذا يفرض علينا إسداء النصيحة وضرورة الكلام؛ لأنَّ هناك مع الإنجاز أخطاءً تستدعي المعالجة والإصلاح، وسياسات تتطلب المراجعة والقراءة التحليلية للتطورات الإقليمية والدولية ومآلاتها فلسطينياً، وهذا ما يُوجب على (أهل الحل والعقد) في هذه الحركة المباركة منح الوقت والأولوية لتدبر الأمور ومدارستها قبل أن تتصدع جدران العربة وتتدحرج عجلاتها بعيداً باتجاه قعر الوادي، حيث لا ينفع ولات حين مندم.
أتمنى أن تلقى تجربة حركة حماس في مشهد الحكم والسياسة المراجعات الكافية لتصويب المسار، وتصحيح البوصلة، حيث إنَّ عمليات الاستهداف تتربص بنا جميعاً، ورأسنا غدا اليوم مطلوباً في كلِّ المعابر!!
قبل عقدٍ من الزمان، كتب أخي د. غازي حمد رسالة إلى قادة حماس، تضمنت مخاوفه ونصائحه إلى إخوانه في الحركة، وكان من بين ما جاء فيها تلك الكلمات: “ليس مطلوباً من حماس أن تتنازل عن حقوق وثوابت القضية، بل مطلوب منها شيئان: رؤية استراتيجية واضحة، وقدرة مرنة في التكتيك والمناورة السياسية”.
الحمد لله، تحقق المطلب الأول بعدما نشرت الحركة وثيقتها السياسية الجديدة عام 2017، وبقي المطلب الثاني، والذي كنَّا وما زلنا نأمل أن نرى مفاعيله على الأرض بتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام.
ختاماً.. إذا كان لا بدَّ للجميع من مناسبة لتذكر كلَّ هذه الانطلاقات، فلتكن يوماً لجلسات التفاكر والمراجعات (أين أصبنا.. وأين أخطأنا؟)، أما اليوم الذي يستحق أن يكون يوماً للبهجة والفرحة، ووقفة للعز والرفعة في ملحمة الذكريات والمآثر، فليكن يوم “الزحف الهادر” نحو القدس، وليكن الشعار الجامع لكلِّ أصحاب الانطلاقات: “أعيادنا يوم عودتنا”.