شهدت الحرب العالمية الثانية، التي اندلعت نيرانها في الأول من سبتمبر عام 1939، العديد من الخدع الجاسوسية التي نفذتها أجهزة المخابرات للدول المشاركة، إلا أن أبرزها عملية «الجاسوس الميت»، التي نفذتها بريطانيا ضد ألمانيا لاحتلال جزيرة صقلية، ونفذها شخصٌ لا يعرف أحد اسمه أو هويته الحقيقية، رغم أنه لعب دورًا كبيرًا في خداع الألمان وقلب مصالح الحرب لصالح الحلفاء.
«الجاسوس الميت».. فكرة بريطانيا في احتلال صقلية
مع حلول خريف 1942، وضع الحلفاء نصب أعينهم احتلال جزيرة صقلية التي كانت تحت احتلال القوات النازية، لتكون قاعدة انطلاق نحو قلب أوروبا، إلا أن السبيل إلى ذلك كان خطيرًا، ومن الممكن اكتشافه من قِبل الألمان، ما جعل المخابرات البريطانية تبحث عن حيلة ماكرة تُمكنها من خداع الألمان، لذا عكف رجال المخابرات على إيجاد وسيلة مبتكرة، وتوالت الأفكار والمقترحات، حتى جائت فكرة على لسان أحد الضباط، قائلًا: «ماذا لو ألقينا جثة لأحد الضباط البريطانيين، بحيث تظهر على شواطئ إسبانيا حاملة بعض الوثائق، التي توحي بأننا نستهدف سردينيا وليست صقلية؟».
وعلى الرغم من أنها بدت غريبة جدًا للوهلة الأولى، إلا أنها نالت لقب الفكرة الأكثر ابتكارًا بين الأفكار المقترحة، وضعت على الفور محل دراسة، ومن ثم الاستقرار أخيرًا على تنفيذها، وفقًا لِما ذكره الدكتور نبيل فاروق، في كتابه «أشهر الجواسيس».
بدأ رجال المخابرات البريطانية، بالتعاون مع بعض الأطباء، يبحثون عن مواصفات الجثة التي ينبغي أن تظهر على شواطئ إسبانيا، ليجدوا أنفسهم أمام عقبة كبيرة، فالشخص الذي يغرق في المحيط لا بد، أن تحتوي رئتاه على الماء، وهو أمر لا يمكن صنعه بوسائل غير طبيعية؛ إذ أن التشريح يمكن أن يكشف عدم وجود الماء، وبالتالي تفشل الخطة بأكملها.
رحلة بحث جديدة بدأت طريقها، لإيجاد جثة بالمواصفات المطلوبة القادرة على خداع الألمان، ليجدوا ضالتهم في جثة لشاب رياضي مات بالتهاب رئوي حاد، أدى إلى ارتشاح في الرئة، وعلى الفور تواصلت المخابرات البريطانية، مع أهل المتوفى، وطلبوا منهم التنازل عن جثة ابنهم دون أن يحق لهم معرفة سبب ذلك، وأقنعوهم فقط بأنه لصالح بريطانيا في حربها ضد الألمان، وبالفعل وافق الأهل، ولكن بشرط ألا يتم ذكر اسم ابنهم الحقيقي أبدًا، وتقبلت المخابرات رغبتهم؛ لذا حملت الجثة اسم الماجور ويليام مارتين، حتى هذا اليوم.
أعمال تجهييز الجثة
أعمال تجهييز الجثة، بدأت بتزويدها ببطاقة هوية حقيقية، وتم التقاط أكثر من 200 صورة لوجه الجثة، إلا أن النتائج لم تكن مُرضية، رغم جهود خبراء الماكياج وتغيير الوجوه، وأظهرت أنه لرجل ميت بالفعل؛ لذلك استغنوا عن تصوير الجثة وبحثوا عن شخص يشبهها، ليجدوا ضالتهم للمرة الثانية في مجند بالبحرية البريطانية، يشبه الجثة بنسبة 80%، وبمساعدة خبراء الماكياج، تم تحويله إلى صورة «الماجور»، التي حوتها هويته العسكري في حافظته.
إلى جانب ذلك تم تزويد الجثة بإشعار من بنك «كويد»، يوحي بأنه شخصية مبذرة، كما صنعوا له صديقة وهمية تدعى «بام»، ووضعوا صورة لها في حافظته، تحمل إهداء رومانسي منها، وفي جيبه رسالتين بتوقيعها، تم فتحهما عدة مرات للإيجاء بأن «الماجور» قرأهما أكثر من مرة، كما وضعوا معه أيضًا، فاتورة شراء خاتمين وتذكرة أتوبيس مستعملة ومفاتيح في سلسلة بسيطة حملت اسمه، وبطاقتين مسرح بتاريخ 20 أبريل، وساعة أوميجا.
وكخطوة أخيرة لتجهييز الجثة لتنفيذ العملية، وضعوا رسالة موجهة من رئيس الأركان إلى الجنرال «ألكسندر» قائد الجيش الثامن عشر الإفريقي، تحوي الأسباب التي تحول دون حصول «ألكسندر» على موافقة القيادة البريطانية بشأن عمليات عسكرية اقترحها، وتم دس بعض الجمل التي تشير بذكاء إلى أن هذا الاقتراح المرفوض يتعلق بغزو جزيرة صقلية، كما تم وضع مذكرة موجهة من اللورد لويس مونتنباتن إلى أميرال الأسطول السير «كوبنجهام» القائد العام للبحرية في البحر المتوسط، يشرح فيها مهمة حامل الرسالة (الماجور ويليام مارتين)، وفي نهايتها إشارة إلى أن القيادة تتمنى أن يعود «مارتين» إليها بـ«السردين»، لشدة رغبتهم في الحصول عليه، وكانت تلك المذكرة أبرع نقطة في العملية كلها؛ إذ أن الإشارة إلى «السردين» على هذا النحو، سيبدو لرجال المخابرات النازية وكأنه تحايُل من جانب الحلفاء، لإخفاء حقيقة رغبتهم في غزو سردينيا.
إلقاء الجثة في المحيط
بعد إتمام كل تلك التجهيزات، أبحرت الغواصة البريطانية «سارف» حاملة الجاسوس الميت إلى هدفها، ومن ثم تم إلقائها في المحيط، وفي 30 أبريل 1942، عثر عليها صياد إسباني، وأبلغ السلطات الإسبانية التي أمرت بتشريح الجثة، وتم تسريب الخبر على الفور إلى الألمان، ليتم تشريح الجثة من قِبلهم، وتأتي النتيجة لصالح المخابرات البريطانية، وبعد يومين من اكتشاف الجثة تسلمها السفير البريطاني، وتم دفنها في مقبرة مدينة هوليجا الإسبانية، وفي الوقت نفسه كان رجال المخابرات الألمانية، ينسخون ويصورون كل ورقة تم العثور عليها مع الجثة لفحصها بعناية، وابتلع الألمان الطعم، ووقعوا في الفخ الذي نصبه الحلفاء، بعد أن وجدوا كل شيء منطقي، كما تم تحليل رسائل «بام» (صديقة الماجور)، ليؤكد الخبراء النفسيون بأن شخصيتها تناسب الارتباط بشخص من رجال الجيش البريطاني.
أكمل الحلفاء تنفيذ خطتهم؛ وفي 4 مايو من نفس العام، تلقى القنصل البريطاني بإسبانيا رسالة سرية من لندن، تقول إن الماجور ويليام مارتين بخلاف القواعد والتعليمات المعتادة ولظروف غير تقليدية كان يحمل بعض الوثائق والأوراق السرية، مطالبين الحكومة الإسبانية بإعادتها، لتستجيب لهم الحكومة الإسبانية، مؤكدة لهم أن الأوراق كانت محفوظة في مكان آمن، ولم يتطلع عليها أحد، ليبدي القنصل البريطاني تفهمه واقتناعه بالكلام، بل ووجه إليه الشكر على موقفه، وكان الحلفاء قد استخدموا في هذه الرسالة شفرة قديمة حصلت عليها ألمانيا في وقت سابق، وبالفعل عندما وصلت هذه الرسالة إلى الألمان، ظنوا أنهم حصلوا على صيد ثمين، وتم إعداد لجنة ألمانية لدراسة الموقف.
ألمانيا تبتلع الطعم
أخيرًا اقتنع الألمان، بأن جيش الحلفاء، سيتجه إلى سردينيا في اليونان، وليس إلى صقلية، وارتكبوا وقتها أخطاء فادحة بالجملة في مواجهة الهجوم الوهمي للحلفاء على سردينيا؛ إذ نقلوا فرقة كاملة من الدبابات من فرنسا إلى اليونان، للدفاع عن طرق المواصلات والموانئ التي ورد ذكرها في رسائل «الماجور»، كما تم نصب عددًا من الألغام بعرض الساحل اليوناني، ونصبوا عليه مدفعية قوية ونظموا دوريات بحرية من قاذفات الطوربيد، بل والأسوأ من ذلك، أنهم نقلوا أسطول الزوارق من جزيرة صقلية إلى اليونان، وهم مطمأنين أنهم كشفوا خطة الحلفاء وأحبطوها، لتكون المفاجاة القاسية عندما هاجم الحلفاء صقلية كالإعصار.
رغم نجاح هذه الخطة، إلا أنه لم يعرف أحد بالأمر إلا بعد انتهاء الحرب عام 1945، وإنهاء هتلر حياته وسقوط ألمانيا في أيدي الحلفاء، لتبدأ مرحلة الاحتفال بالنصر والتفاخر بالإنجازات، ويعلن البريطانيون عن تلك الخدعة التي ساهمت في تحويل مسار الحرب العالمية الثانية، وينبهر العالم بما سمع، ويتوافد المئات على ذلك القبر الذي يحمل اسم الماجور ويليام مارتين في مدينة هوليجا بإسبانيا، وراحوا يغمرونه بالزهور تقديرًا للدور الذي لعبه لنصرة بلاده، وهو في الحقيقة شخصية وهمية صنعتها المخابرات البريطانية.