كانت ليلة 13 أيار/ مايو 2021، من الليالي المشتعلة في مدينة يافا في ظل أحداث هبة الكرامة وما تخللها من اقتحام قوات الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين لأزقة الأحياء العربية وهم مسلحون، إذ اعتدي واعتقل وأصيب العديد من المواطنين العرب.
بعد ساعات من المواجهات آنذاك، سيطر القلق والترقب لما هو آت على المواطنين العرب، إذ كانت الشوارع شبه فارغة، فيما هوامشها كانت تشير إلى المواجهات التي اندلعت بين اليافيين من جهة وعناصر الشرطة والمستوطنين من جهة أخرى، إذ كانت الحجارة في كل مكان وملأ دخان الإطارات المطاطية سماء المدينة.
خلال اقتحام قوات خاصة من الشرطة مدججة بالأسلحة لحي العجمي في المدينة آنذاك، حسّ إبراهيم سوري كباقي المواطنين العرب، أن من واجبه توثيق الانتهاكات من قبل عناصر الشرطة من أعلى نقطة ممكنة، وحينها اعتلى السوري شرفة منزله وبدأ بالتصوير من هاتفه الخليوي وتوثيق عناصر الشرطة، ما لم يعجب أحدهم (شرطي) حين سُمع في التوثيق المصور يقول لعنصر آخر “هو يوجه علينا” أي أن السوري يوجه كاميرته عليهم، ثم رد السوري والكاميرا لا تزال توثق “أنا أصور وهذا مسموح لي، أتريد أن تطلق النار علي؟ افعلها إن شئت”.
ساد الصمت المكان، ولم تمر إلا ثوان معدودة على جملة السوري، الذي وجهها للشرطة، وبصوت مدو سُمع إطلاق رصاصة مطاطية من قبل أحد عناصر الشرطة من مسافة قريبة تجاه السوري، ومن ثم سمع صراخ السوري من شدة الإصابة، إثر إصابته في وجهه.
ورغم توثيق السوري الحادثة ووضوح عناصر الشرطة في التصوير، إلا أن وحدة التحقيقات مع عناصر الشرطة (“ماحاش”) قررت إغلاق الملف بادعاء ضعف الأدلة وعدم التعرف على هوية عناصر الشرطة الذين تواجدوا في المنطقة نفسها.
ومما يذكر أن السوري مكث في المستشفى لمدة 6 شهور بعدما أصيب بجروح خطيرة في وجهه بعد استهدافه برصاصة مطاطية بشكل مباشر، والتي أسفرت عن 26 كسرا في منطقة الوجه والجمجمة، ناهيك عن الجروح وتضرر جميع أسنانه، وعطل في جزء كبير من أعصاب الوجه.
تحوّلت حياتي إلى جحيم
على وقع أمواج البحر، في ميناء يافا، كان يجلس الشاب إبراهيم سوري على قاربه الذي يسترزق منه من صيد الأسماك، كان إبراهيم يحدّق في البحر الذي كان بالنسبة له بيته الآخر، والذي لم يزره نحو عام بسبب الإصابة.
واستهل السوري حديثه بالقول “في تلك الليلة تغيّرت حياتي إلى جحيم” وهو يقف على رأس قاربه وينظر إلى صناديق الأسماك الفارغة. مضيفا “كنت إنسانا عاديا وقويا وجبارا أحمل من الأسماك ما يكفي قوت عشر عائلات مرة واحدة، أما اليوم، فما عاد هذا البحر بالنسبة لي كما كان سابقا، وعادت هذه الأوزان الخفيفة تشكل عبئا كبيرا علي”.
لم يكن السوري يستعمل الأدوية، سواء المسكنة للآلام، والأدوية النفسية، وعن ذلك قال “منذ الإصابة وأنا أعيش على 8 أنواع مختلفة من الأدوية. 6 شهور كان فيها فمي مغلقا بسبب الإصابة ولم أستطع تناول الطعام، فقط كنت أشرب الحليب المخصص ما تسبب بتلفٍ في المعدة، وحتى اليوم لا أستطيع الأكل بشكل منتظم، ولا أستطعم الطعام كما في السابق، هذه أمور يعتقد البعض أنها صغيرة وتافهة، لكنها أكثر ما يقلقني”.
ويحاول السوري أن ينسى تلك اللحظات العصيبة التي عاشها ما بعد الإصابة، ولكن سكون الليل يحول دون ذلك، مشيرا إلى أنه “في النوم تعبر صور الماضي في ذهني سريعا، تقريبا في كل ليلة، تعاود تلك التفاصيل البائسة بتذكيري بما حصل، لذلك اضطررت إلى أخذ الادوية التي تساعد على النوم، وأدوية مهدئة أخرى”.
وكان السوري رئيس لجنة الصيادين في يافا، وخاض مع اللجنة نضالات عديدة سواء أمام بلدية تل أبيب التي حاولت إخراج الصيادين من الميناء، أو أمام السلطات الاسرائيلية التي قامت في محاولات التضييق عليهم، وأوضح أنه “منذ الإصابة لم أفعل شيئا في اللجنة، لم أكن أترك بابا إلا وأطرقه من أجل حقوق الصيادين في يافا، في البلدية أو في الكنيست أو في اللجان المختصة، أما اليوم فلا شيء يُذكر من السابق، وكأني تحطمت من داخلي”.
تدمرت حياتي
انقلبت حياة إبراهيم السوري رأسا على عقب في كافة الجوانب كما يصف، ويقول إن “هذا الشرطي الذي أطلق الرصاصة دمر كل شيء في حياتي، في الجانب النفسي، والجانب الاقتصادي والجانب العائلي الاجتماعي، لم تعد علاقاتي مع الناس كما كانت سابقا، التزمت البيت والقلق دائما يسيطر علي. حتى أنني لم أجرؤ حتى الآن على معالجة أسناني إذ أنني بحاجة إلى زراعة فورية، ولكن بسبب الحالة النفسية دائما حين أدخل إلى الطبيب تصيبني نوبات من الخوف بسبب ما حصل وأخرج فورا من دون علاج”.
ويستذكر تفاصيل الأحداث التي كانت في يافا خلال هبة الكرامة، وعن الصدمة التي كانت لدى المواطنين العرب التي حتّمت عليهم الوقوف والدفاع عن أنفسهم رغم أنهم عُزل، قائلا “رأينا أنفسنا نواجه شرطة مدججة بالأسلحة، ومستوطنون مسلحون مدعومون من الشرطة وكل المؤسسات، ونحن مهددون حتى في بيوتنا، إذ حاولوا حرقنا داخل البيوت، واعتدوا علينا فيها، ثم طاردونا في الشوارع، وخلفوا اعتقالات وإصابات بالجملة”.
ويصف السوري الأحداث آنذاك بالقول “كنا وكأننا في حلم، هكذا تخيّلنا، تسارع الأحداث الذي كان لا يمكن وصفه ولا تخيله، بلحظة اشتعلت الأمور وانقلبت الموازين، ولكن هذه الهبة، بيّنت لنا الكثير من الأمور التي كانت غائبة عنا، وعن تعامل المواطنين اليهود معنا، وكيف يرون بنا كأعداء، وأيضا الشرطة ودفاعها عن المستوطنين المجرمين”.
رغم عدم ثقة السوري في السلطات إلا أنه كان يحمل أملا بأن يعاقب الشرطي الذي أطلق عليه الرصاصة، مضيفا “كنت أتوقع أن يعاقب لأن وجوه عناصر الشرطة كانت واضحة في الشريط الذي قمت بتوثيقه، فلم أتوقع أن تتذرع وحدة التحقيقات مع عناصر الشرطة بهذه الطريقة الوقحة”.
لم يقتصر الضرر الذي سببته إصابة السوري على الجانب النفسي والاقتصادي وحسب، إنما تغيّرت علاقاته العائلية وخاصة مع أولاده إلى الأسوأ منذ الإصابة، وذكر أن “أولادي تضرروا هم أيضا من حالتي، حيث تصيبني نوبات من الأعصاب فجأة، وأتحول إلى إنسان عصبي جدا، وهذا كله بسبب الأدوية، ومنذ ذلك الوقت وأولادي لا يعيشون برفقتي”.
يعزو السوري إغلاق ملف التحقيق ضد الشرطي إلى أسباب عنصرية، ورأى أنه “لو أن ما حصل كان عكسيا لاعتقلوا نصف شباب يافا، حيث يدعون أننا في دولة ديمقراطية، ولكن هذه الديمقراطية عند العرب تقف عند القتل والإصابات والاعتقالات”.
وختم حديثه بالقول “لن أسكت عن معاقبة الشرطي ولا بأي شكل من الأشكال، الملف لن يقف هنا وسأقدم شكوى في المحكمة أولا ضد (“ماحاش”) التي حققت مع عناصر الشرطة، وعلى الشرطي نفسه، لأن سكوتي عن هذا الشرطي سوف يعطي شرعية لعناصر الشرطة باستمرار جرائمهم ضد أبناء مجتمعنا”.
عرب48