بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي:
لا يتوقف جهاز المخابرات الإسرائيلي “الموساد” عن ملاحقة واستهداف عقول المقاومة النابغة، وأدمغتها الخلاقة، ومهندسيها الأفذاذ، وفنييها المهرة، ومبتكريها المميزين، وصُنَّاعها المبدعين، وخبرائها العسكريين والأمنيين، والمختصين في علوم الكمبيوتر ومهارات الانترنت، والعالمين في شؤون السايبر ووسائل الاختراق الاليكترونية، وسبل التجسس والتنصت والتصوير والمراقبة، وإدارة شبكات الاتصال والتواصل، وأجهزة السيطرة والتحكم، وغيرهم من كبار المهندسين المختصين في مجال صناعة المسيرات الحديثة، وتطوير الصواريخ الدقيقة، وتجهيز المتفجرات القوية، وبناء المنصات وصناعة المضادات، وعلماء الفيزياء والكيمياء وهندسة الكمبيوتر، ممن يسخرون قدراتهم لخدمة المقاومة وتحسين قدراتها.
وفق هذه السياسة الأمنية التي يتبعها جهاز الموساد الإسرائيلي، والتي يعلن المسؤولية عنها أحياناً، بينما يبقي الكثير منها غامضة دون اعتراف، وإن كانت كل الدلائل والشواهد تدل عليه وتشير إليه، إلا أنه يؤثر لأسباب خاصة عدم الاعتراف بالمسؤولية عنها وتبنيها، فقد أقدم يوم أمس السبت 18/3/2023 في ريف العاصمة السورية دمشق، على اغتيال المهندس علي رمزي الأسود، القائد في سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، في عمليةٍ قذرةٍ جبانة، استخدم فيها على الأرجح عملاءً له، وأدواتٍ ترتبط به وتعمل معه، وإن كان احتمال وجوده على الأرض، وتنفيذه العملية بنفسه دون وسطاء يستخدمهم، يبقى قائماً وغير مستبعد.
اعترف العدو الإسرائيلي بهذه الجريمة النكراء أو لم يعترف، فهو الذي نفذها أو أمر وأشرف على تنفيذها، وأياً كانت الأدوات التي استخدمها، محليةً أو أجنبيةً، فهو الذي قتل، وجهازه الأمني “الموساد” هو الذي حدد الهدف وخطط، وهو الذي راقب وتابع وقرر التنفيذ وأشرف على تفاصيل العملية كلها، وعليه أن يعلم أنه وحده من يتحمل المسؤولية عنها، وأن يتوقع الرد والانتقام، فهذه المقاومة الشريفة الأمينة، التي لا تسكت على الضيم، ولا تقبل بالذل، وترد بسرعةٍ في القدس وتل أبيب، وفي نابلس وجنين، وفي كل أرجاء فلسطين، وتقطع اليد التي تتآمر عليها وتتعاون مع عدوها، فإن ردها سيكون سريعاً ومباشراً، ومؤلماً وموجعاً، وستوقعه السرايا والألوية والكتائب وغيرها، بالدم والنار، وهي اللغة الوحيدة التي يعيها العدو ويفهمها، ويخاف منها ويخشاها.
اغتيال المهندس علي رمزي الأسود يذكرنا بالمقاومين الذين سبقوه، وبالشهداء الذين لاحقهم العدو واستهدفهم، وخاف من قدراتهم وقلق كثيراً من إمكانياتهم، فكان قراره قتلهم للتخلص منهم ووقف مشاريعهم وتعطيل برامجهم، فقتل في بيروت مهندس الاتصالات حسان اللَّقيس، ولاحق في تونس مهندس الطيران محمد الزوَّاري، واستأجر في ماليزيا متعاونين للتخلص من العالم المبدع الواعد فادي البطش، واستخدم أقصى قدراته الأمنية والتكنولوجية في إيران لقتل أحد أكبر رواد المشروع النووي الإيراني محسن فخري زاده، وقد سبقهم علماء آخرون، راقبهم العدو طويلاً، واستخدم وسائل مختلفة في قتلهم والتخلص منهم، لئلا يترك وراءه أدلةً ماديةً تدل عليه وتحمله المسؤولية عن قتلهم.
لن يتوقف العدو الإسرائيلي الذي يلق مساعدةً من الكثير من أجهزة المخابرات الدولية، ويتعاون معه عملاء كثيرون مقابل مبالغ مالية أو مصالح مادية، عن المضي قدماً في تنفيذ مثل هذه الجرائم، التي يعتبرها عملياتٍ أمنيةً استباقية، ويرى أنها ضرورية وواجبة، وأنها تحمي كيانهم من الأخطر، وتقيه من المستقبل المجهول، وتحصنه من الأسلحة الفتاكة المدمرة، ومن الصواريخ الدقيقة المتطورة، فهؤلاء المهندسون والعلماء، والمختصون والخبراء، والفنيون المدربون، يشكلون بعلومهم وقدراتهم خطراً على كيانهم، وسيكون خطرهم أكبر لو ترك لهم المجال للمزيد من التجارب وعمليات التطوير، خاصةً أنهم يضعون أنفسهم في خدمة المقاومة ويؤمنون بمشروعها، ولديهم كامل الاستعداد للفداء من أجلها والتضحية في سبيلها.
لكن الشعب الفلسطيني والمقاومة الذي تدرك حقيقة حربها مع عدوها، ولا تستبعد لجوءه إلى كل الخيارات، ولا تنسى سوابقه معها ومع علماء الأمة العربية والإسلامية الأفذاذ، الذين قتلهم غيلةً وغدراً، أو قضوا نحبهم في ظروف غامضة، فإنها وعلماءها سيستمرون في برامجهم، وسيواصلون مشاريعهم، وسيمضون على نهجهم، ولن يفت في عضدهم قتلٌ أو اغتيالٌ، كما لن يؤخرهم عن واجبهم تضييقٌ أو حصارٌ، فهم يعلمون أنها حربٌ مفتوحةٌ مع العدو على كل الجبهات، وهو لن يتأخر عن توجيه ضرباته إليها في أي مكانٍ وزمانٍ، طالما أنه يستشعر خطر مشاريعهم وجدية برامجهم.
رحمة الله على الشهيد المهندس على رمزي الأسود، وجعله من أهل الجنة وأسكنه الفردوس الأعلى، وجمعه بإخوانه الذين سبقوه على دروب المجد وساحات العزة والكرامة، وليطب نفساً وليقر عيناً أن إخوانه من بعده سيواصلون دربه، وسيسيرون على طريقه، وسيحفظون عهده، فالأمانة التي بدأها وإخوانه العلماء الشهداء، سيحملها من بعدهم رجالٌ صادقون، وطلابٌ مبدعون، وخلفٌ مخلصون، بما يجعل العدو يندم على فعلته، ويأسف على جريمته، ويذوق وبال أمره، فالخلف أشد بأساً من السلف، وأقوى عوداً وأشد مراساً، وأوجع ضرباً وأدق إصابةً، وسيعلم بإذن الله الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون.