عاصفة شاملة وكاملة…!! حسن خضر

ما يحدث في إسرائيل، الآن، عاصفة شاملة وكاملة: يتحالف سياسي لامع وفاسد مع مستوطنين أغرار، طمعاً في السلطة، وهرباً من مهانة السجن، وهم يتحالفون معه ترجمة لأوزان انتخابية جعلتهم مجتمعين، لا فرادى، لاعباً وشريكاً لا غنى عنه في جمهورية برلمانية صارت ديمقراطيتها الإثنية عبئاً عليه وعليهم، ويمكن أن تنتهي على أيديهم.
ولكي تبدو العاصفة بكامل هيئتها، يجب أن نرى مئات الآلاف من المتظاهرين.
فهؤلاء مواطنون، أيضاً، وهم قوّة مكافئة ومضادة. وهذه سمة أولى للعاصفة تتجلى في صورة صدام بين كتلتين اجتماعيتين قد تكون نتيجته تمزيق النسيج الاجتماعي، وفي مجرّد وقوع ما وقع حتى الآن، وبالكيفية التي رأيناها على مدار ثلاثة أشهر، ما يعني أن نهاية كهذه لم تعد أمراً بعيد المنال.
وإذا اقتربنا من السمة الثانية، وهي وثيقة الصلة بالأولى، ومركز الثقل في هذه المعالجة، فثمة ما يبرر القول إن الدوافع الحقيقية لتحالف السياسي اللامع والفاسد مع المستوطنين الأغرار، معروفة تماماً، وبهذه التعبيرات تقريباً، لدى مراقبي المشهد الإسرائيلي في العالم، وعلى نحو خاص صنّاع السياسة، والرأي العام في دول الديمقراطيات الغربية، وهؤلاء هم حلفاء الدولة الإسرائيلية، وحماتها.
وغالباً ما يتذرّعون بالقيم المشتركة بينهم وبينها لتبرير علاقاتهم الاستثنائية بها، وتسامحهم المرضي مع أخطائها وخطاياها.
معرفة الدوافع الحقيقية، وما نجم عنها حتى الآن، أمر فائق الأهمية لأن إسرائيل تُعامل، دائماً، خاصة في الغرب كدولة استثنائية (ليس لأن الغرب استعماري و”ابن حرام”، ولكن لأن المسألة اليهودية في صميم علاقة الغرب بتاريخه، وذاكرته، كما أن علاقة العرب والمسلمين بالمسألة الفلسطينية وثيقة الصلة بالذاكرة، والتاريخ).
وإذا استخدمنا تأويل الإيطالي أغامبين لحالة الاستثناء بوصفها احتكاراً وممارسة من جانب الدولة لحق في الاستثناء تكفله السيادة، فإن هذا الحق، معطوفاً، على المسألة اليهودية، يمثل ويفسّر حالة الاستثناء الإسرائيلية.
ويتوفر بهذا المعنى، وبوصفه نوعاً من المعطى السابق في حالات كثيرة، القدر الكبير من الرصيد الاحتياطي الأخلاقي والرمزي للدولة اليهودية الإسرائيلية، خاصة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولولا هذا الرصيد لما وجدت الدولة أصلاً، أو تمكّنت من البقاء حتى الآن. ولكن هذا الرصيد، ككل شيء آخر، يقبل الزيادة والنقصان، وقد ينضب في وقت ما.
وبهذا المعنى، ينتقص تحالف السياسي اللامع والفاسد مع المستوطنين الأغرار، من الرصيد المذكور. وما يُرشح النتائج لتكون كارثية، في هذه الحالة، أنه يتجلى كتمهيد لتقويض نظام الجمهورية البرلمانية، والديمقراطية الإثنية (ورقة التوت التي تبرر الكلام في الغرب عن القيم المشتركة)، ويضع الإسرائيليين على حافة الحرب الأهلية.
ويشاء اجتماع عوامل مختلفة أن يترافق هذا كله مع لحظة فارقة في تاريخ الاستيطان اليهودي، أعني هجوم المستوطنين على بلدة حوّارة.
وأتوقّف، هنا، عند تعبير “بوغروم”، الذي استخدمته منصّات إعلامية إسرائيلية وغربية، في وصف تلك الليلة الشنيعة (حتى “يديعوت أحرونوت” المحافظة اكتشفت صلة دلالية بينها وبين ليلة الكريستال البعيدة في تاريخ بعيد).
ورد تعبير “بوغروم” في معرض الكلام عن المذابح التي استهدفت اليهود في الإمبراطورية الروسية، وأوروبا الشرقية، في القرن التاسع عشر بشكل خاص، وغالباً ما ارتكبتها ميليشيات قومية ودينية متطرفة. وفي سياق كهذا، فإن الصلة الدلالية بين الفلسطينيين ويهود الإمبراطورية الروسية، وكذلك بين المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، وميليشيات القوزاق والفلاّحين، لا تخفى على أحد، خاصة في الغرب.
وكأن هذا لا يكفي لإضفاء مهابة اللحظة التاريخية على حالة العاصفة الكاملة، فتشاء المفارقات أن يحدث تحالف الفاسدين والأغرار، وأن يصعد المستوطنون أعلى هرم السلطة، وأن تطل الفاشية برأسها من شرفة السلطة، وأن تتعرّض الديمقراطية الإثنية للتهديد، في لحظة تبدو فيها إسرائيل في أفضل حالاتها، وقد صارت مرشحة لدور القوّة الإقليمية، بعد انهيار الحواضر العربية، وطلب وصالها من جانب كيانات على الأطراف “اكتشفت” جداً إبراهيمياً مشتركاً، يبرر الاحتماء بها، وحتى عناقها بحرارة تبرر الارتياب في عودة مكبوت من نوع ما، فقد سبق للمصريين والأردنيين والفلسطينيين أن أنشؤوا علاقات مفتوحة بالإسرائيليين، ولم يفعلوا هذا، ولا حتى ربعه.
وإذا كنت من صنّاع السياسة والرأي العام، وكنت لا تصدق الدلالة بعيدة المدى لهذا كله، فلن تحتاج لأكثر من نشرة أخبار واحدة، في اليوم، ومسائية على الأرجح، لإدراك أن هذا ما يراه، ويدرك مخاطره القريبة والبعيدة، مئات الآلاف من الإسرائيليين، أيضاً.
فإلى جانب الدفاع عن الحق في اختيار أسلوب الحياة، وعمّا تبقى من علمانية الدولة، ورفض دولة الشريعة اليهودية، يدرك هؤلاء أن بقاء الدولة مشروط ببقاء نظام الجمهورية البرلمانية، والديمقراطية الإثنية، وأن نفاد الرصيد الأخلاقي لحالة الاستثناء في بعديها الدولاني (انهيار الديمقراطية الإثنية) واليهودي (فهناك يهود أخيار في الشوارع يتظاهرون ضد يهود أشرار في الحكومة) يعني أن الدولة الإسرائيلية بددت رصيدها الأخلاقي، والرمزي (في الغرب) وصارت دولة عادية، يصدق عليها ما يصدق على غيرها. وهذا يضع مصير الدولة، ومشروعها، للمرّة الأولى في تاريخها على المحك.
هذه هي العاصفة الكاملة، وأسئلتها الصعبة، مع ملاحظة أن نجاح المتظاهرين في إحباط مشروع الانقلاب القضائي، يضيف المزيد إلى الرصيد الاحتياطي الأخلاقي والرمزي للدولة في العالم، ولكنها حالة مؤقتة في كل الأحوال.
الأزمة وجودية، وغير مسبوقة فعلاً، فالإناء الذي انكسر لم يعد صالحاً للاستعمال أو الزينة، كما كان في وقت مضى.