ورشة بسيطة تخلو من الأثاث، إلا مقعد خشبي يجلس عليه «محمد فوزي»، ساعات طويلة من يومه، غارقًا بين أكوام من الحصير والصوف والقطن، الأدوات المبعثرة حوله حفظ طريقها، فلا يهتم بترتيبها، يبدأ في تشكيلها بيديه جيدًا، فتتجلى ندوب أصابته كثيرًا وقت العمل، وتركت أثارها في راحة يديه، خطوات مرتبة ينفذها الرجل الخمسيني بصبر شديد، حتى يخرج من تحت يديه لوحات مخطوطة مرسومة بحرفة، لا تُغري إلا من أحب هذا الفن.
منذ أن كان شابا في العشرينيات من عمره، احترف «محمد فوزي» ابن قرية الأبعادية بمركز دمنهور التابع لمحافظة البحيرة، مهنة تصنيع الحصير يدويا، ورثها عن والده وأجداده، شغفته حبًا وبات بارعًا فيها، تخطت بالنسبة له مهنة يمارسها لكسب المال، يقول في بداية حديثه لـ«» عن حرفة الغزل بالحصير.
جاءت نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حاملة تغيير جذري في مهنة الحصير، كانت البيوت المصرية والمساجد أيضا تعمد عليها حتى ظهر الحصير الجاهز البلاستيك، ومن هنا اتخذ «فوزي» اتجاها جديدا، «مجرد ما دخل الحصير البلاستيك بدأ الإقبال على الحصير اليدوي يقل والمهنة بدأت تختفي وصنايعية الحصير غيروا نشاطهم»، إلا أنه قرر التمسك بها.
الغزل على الحصير لمواجهة الاندثار
في مطلع التسعينيات سافر الرجل الخمسيني إلى خارج مصر في جولة فنية، تعلم خلالها الكثير من الأسرار الجديدة عن حرفة الحصير، «اتعلمت حاجات جديدة، وقررت لما أرجع مصر أحافظ على الصنعة، واستغلها وأطورها بشكل جديد»، بحسب تعبيره.
الغزل على الحصير، أو فن تابلوهات حصير، فن برع فيه ابن محافظة البحيرة، يحول الحصير إلى لوحات فنية مرسومة بالصوف والقطن المصبوغ بزاهية، يجلس في ورشته ساعات طويلة حتى يخرج من تحت يديه قطعة مصنوعة بحب تُغري محبي الفنون اليدوية،« بدأت أبحث عن المعارض الفنية في القاهرة وأشارك فيها عشان أعرض شغلي وأنشره بين الناس»، كمعرض تراثنا وديارنا وغيرهم من المعارض اليدوية.
كتابة المصحف على الحصير
قبل عشر سنوات، اتجه «فوزي» إلى فكرة جديدة وهي كتابة المصحف على تابلوهات الحصير، كشكل جديد من الغزل بالحصير، وفي عام 2016، تم تسجيل فن تابلوهات الحصير ضمن التراث العالمي، «كان لازم أكمل عشان أعمل حاجة مميزة تليق بالتراث العالمي»، يغزل الحروف من القطن والصوف الملون، وإن شاء استخدم الجلد الطبيعي والنحاس في رسم لوحاته الفنية على الحصير، يثبت الحصيرة من جانبيها على نول خشبي حتى يتمكن من تشكيلها، بحسب هيئته التي يبدو عليها داخل ورشته.
لم يكتف الفنان الخمسيني بكتابة آيات القرآن الكريم على الحصير باللغة العربية فقط، بل كتب الفاتحة باللغة الفرنسية بالصوف والقطن باللونين الأسود والأحمر، أما أسماء الله الحسنى، كتبها على الحصير وأهداها إلى متحف الفن الإسلامي فى عهد الدكتور أحمد الشوكي عندما كان مديرا للمتحف، بحسب قوله.
حلم استكمال المصحف على الحصير
لا يوجد منزل في «دمنهور»، إلا ويعرف حرفة «فوزي»، يستقبل الراغبين في التعلم من حوله ليحافظ على الحرفة، يُعلم الأجيال الصغيرة صنعة أجدادهم خوفًا عليها من الاندثار، ويحلم باستكمال مشروعه الذي بدأه في كتابة المصحف على الحصير، «بحلم أكمل المصحف ومحتاج دعم بالخامات ودعم معنوي عشان يتحط في المتحف»، بحسب تعبيره.