في ذكرى النكبة، لا جديد بالقول إن النكبة ما زالت مستمرة، وإن المشروع الصهيوني قطع شوطًا كبيرًا على طريق تحقيق أهدافه، بدليل إقامة إسرائيل على 78% من فلسطين واحتلال الباقي في العام 1967، والعمل جارٍ على قدم وساق من أجل تهويد الضفة الغربية وضمها، وتهجير قسم كبير من سكانها، وتصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها. ولا شك أن الإنجازَ الأهم للحركة الصهيونية احتواءُ الحركة الوطنية الفلسطينية، كما تحقق في توقيع اتفاق أوسلو، ثم شق الطريق للانقسام الذي حدث في العام 2007، هذا الحدث المشؤوم والمستمر منذ ذلك التاريخ، ويتعمق باستمرار، ويتحول إلى انفصال.
ما زال المشروع الصهيوني على الرغم من ذلك مفتوحًا، ويعمل على استكمال بقية الأهداف بضم بقية الأرض، وتهويدها، وطرد أكبر عدد ممكن من السكان، وإقامة إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر.
إسرائيل في أضعف حالاتها، ولكنها لا تزال قوية وقادرة على العدوان
كانت تبدو إسرائيل في ذكرى النكبة السابقة في أقوى حالاتها، بل تملك فائضًا من القوة يجعلها تتقدم في طريقها من دون عوائق كبرى، وخلقت حقائق على الأرض تجعلها تقترب من استكمال تحقيق أهدافها، وساعدها على ذلك الاتفاقات الإبراهيمية التي جسدت اختراقًا صهيونيًا جديدًا كبيرًا للعرب، ظهر فيه العرب المطبعون وكأنهم تخلوا عن القضية الفلسطينية والفلسطينيين، وحتى عن “مبادرة السلام العربية” التي كانت تنص على انسحاب كامل مقابل سلام كامل، وظهروا كأنهم مستعدين لتجاوز التطبيع البارد وإقامة سلام حار وتحالف عربي إسرائيلي سياسي اقتصادي عسكري في مواجهة الخطر الإيراني.
إذا ما قارنا ذكرى النكبة في هذا العام بالعام الماضي، سنجد أن هناك طعمًا مختلفًا تمامًا، فإسرائيل اليوم وبعد تشكيل أكثر حكومة تطرفًا تبنت برنامجًا للضم والتهويد والتهجير، وتسعى إلى تطبيقه بسرعة عن طريق خطة الحسم، وسنجد أنها مع ذلك في أضعف حالاتها وبدأت بالعد العكسي؛ ذلك بسبب تفجر الخلافات الداخلية إلى حد والانقسام بين تياريْن أساسييْن: واحد يريد أن تبقى إسرائيل كما كانت منذ تأسيسها دولة يهودية ديمقراطية، والآخر يريدها أن تتحول إلى دولة الشريعة اليهودية بالكامل.
وبناء عليه، وصلت إسرائيل إلى مأزق عميق بنيوي، كاد أن يصل يوم 27 آذار 2023 إلى عصيان مدني وحرب أهلية، لولا تدخل الدولة العميقة والدولة الأم الولايات المتحدة؛ حيث جُمِّدَتْ خطة الحكومة لإضعاف القضاء لصالح الكنيست والأغلبية في محاولة للتوصل إلى تسوية من الصعب التوصل إليها، فالكثير من الناس في دولة الاحتلال يقولون إنه لا يمكن العودة إلى الوضع قبل الإصلاح القضائي، وإذا جرى التوصل إليها فستكون مؤقتة وقابلة للانقسام في أي وقت لاحق.
المفجر الرئيسي للمأزق الإسرائيلي الحالي داخلي وليس فلسطينيًا أو خارجيًا
لم تستطع الحركة الصهيونية – كما تنبأ بن غوريون وغيره من القادة الصهاينة – أن تصهر اليهود الذي أحضروا من مختلف بقاع وشعوب وقوميات العالم، بل يبدو الآن أنهم أبعد عن الانصهار من أي وقت مضى، ولعل من أهم العوامل التي ساعدت على تحقيق ذلك أن القضية الفلسطينية وأداتها الحركة الوطنية لم تعد ذلك الخطر الوجودي الذي كانت تمثله؛ لذلك أدى تراجع الخطر الخارجي الذي يهدد وجودها وشرعيتها من الجذور إلى تقدم، بل تفاقم الخلافات والتناقضات الداخلية.
ما سبق يوضح أن المفجر الرئيسي للمأزق الصهيوني الراهن هو الصراعات الداخلية حول هوية إسرائيل ودورها، وعلى من هو اليهودي، وبين المتدنيين والعلمانيين، والشرقيين والغربيين، وليس المقاومة الفلسطينية، فهي الآن – أي المقاومة – ليست في أحسن حالاتها، على الرغم من البطولات والتضحيات الغالية، وظهور جيل المقاومين الجدد، وامتلاك المقاومة الصواريخ وحفرها للأنفاق، وتقدمها في السنتين الأخيرتين.
لقد كانت القضية الفلسطينية في السابق في وضع أفضل، وكانت المقاومة في السبعينيات من القرن الماضي أقوى، لا سيما عندما صنفت الأمم المتحدة الحركة الصهيونية بوصفها شكلًا من أشكال العنصرية والتميز العنصري عام 1975؛ إذ شهدنا في تلك الفترة النهوض الوطني الفلسطيني الذي بدأ باندلاع الثورة الفلسطينية التي حوّلت اللاجئين إلى ثوار، ووحدت الشعب في كيان وطني واحد.
كما كانت المقاومة كذلك أقوى أثناء الانتفاضتين الأولى والثانية، وأفعل وأحسن وأكثر تأثيرًا مما هي عليه الآن، مع أن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته المستمرة والباسلة وبقاء القضية حية من أهم الأسباب والجذور التي أدت إلى ما تعانيه إسرائيل اليوم، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فإن كون إسرائيل في أضعف حالاتها ومهددة بتحول الانقسام إلى تقسيم؛ لا يعني أنها لم تعد خطرة أو غير قادرة على العدوان، بل يبقى العدوان ضد الفلسطينيين أحد المخارج التي قد تلجأ إليها لتأجيل انفجار مأزقها الداخلي من خلال تصديره إلى الخارج، وشن عدوان أكبر ضد الفلسطينيين بحكم أنهم الحلقة الأضعف في أعداء إسرائيل. لذا، يجب استمرار الحذر والاستعداد لمثل هذا السيناريو، وعدم الاعتماد أكثر ما ينبغي على وحدة الساحات، وتوازن الرعب والردع وقدرات محور الممانعة.
تحولات ومتغيرات جديدة في المنطقة من دون انتصار حاسم لمعسكر
لا يزال محور الممانعة على الرغم من التقدم الذي أحرزه يخشى من مواجهة مفتوحة مع دولة الاحتلال؛ خصوصًا أنها ستؤدي إلى مواجهة مع الولايات المتحدة التي لا تزال الدولة الأقوى عسكريًا في العالم، والتي لن تتخلى عن حماية إسرائيل بسهولة وسرعة كما يتخيل البعض، وكما يظهر في الردود الإيرانية والسورية على العمليات التخريبية والعدوان المستمر على أهداف داخل سوريا، وبدرجة أقل داخل إيران، على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزه في ميدان الصراع مع إسرائيل، أو في المنطقة بشكل عام، بالمصالحات التي تشهدها المنطقة.
كما أن المصالحات لا تحركها دوافع وأزمات عند فريق فقط، فهناك دوافع وأزمات في دول محور الممانعة تدفعها كذلك نحوها. وهي لا تعني – أي المصالحات – وقف عمل كل طرف لتحقيق أهدافه بوسائل أخرى، فلم يتحقق انتصار حاسم لطرف على آخر، بل هناك معسكر تقدم في بلد أو ملف، وآخر في بلد أو ملف آخر، وهناك صيغة أقرب إلى صيغة لا غالب ولا مغلوب، أو طرف انتصر بالنقاط وليس بالضربة القاضية.
إسرائيل ستزول لأنها تجسيد لمشروع استعماري ترفضه وستلفظه المنطقة وليس جراء نبوءات أو صراع داخلي
هناك من يسارع ويزف البشرى بأن ما يجري في الكيان يعني قرب زوال إسرائيل، وهناك من حدد مواعيد لهذا الزوال، منها ما فات، مثل نبوءة زوال إسرائيل في العام السابق، ومنها من يقترب، مثل نبوءة زوال إسرائيل عندما يبلغ عمرها 80 عامًا تحقيقًا للعنة الأجيال. ونقول لمن كان يبشر عشرات المرات بأن إسرائيل منذ تأسيسها على وشك الزوال، او حدد موعدًا لزوالها، خلال سنوات قليلة إن إسرائيل ستزول كما زال كل استعمار على مدى التاريخ، ولكن هذا الزوال سيحدث عندما تتوفر أسبابه، وأهمها نهوض فلسطيني وعربي يعرف كيف يسرع لحظة الوصول إلى هذا الزوال، ومن دون هذا الشرط فيمكن أن تعيش إسرائيل 20 أو 50 أو 100 عام، فهي جزء من منظومة عالمية لن تزول إلا بإضعافها، وعدم قدرتها على خدمتها.
وأكبر حجة لدى المتنبئين بزوال إسرائيل ما يقوله الإسرائيليون بأنفسهم؛ إذ كثرت التصريحات والتحليلات بين الإسرائيليين، بمن فيهم قادة سياسيون ودينيون سابقون وحاليون وغيرهم، متناسين أن الهدف الأكبر لدى معظم هؤلاء هو السعي إلى منع زوال إسرائيل، وليس التبشير بزوالها مع أن أي استعمار وأي مجرم يبقى يخشى على مستقبله ما دام ضحيته صامدا وحيا ومقاوما.
أفكار وحلول إسرائيلية لإنقاذ إسرائيل من نفسها: التقسيم والفدرالية مثالًا
لكي أبرهن على ما سبق، أنصح بقراءة مقال لإيتاي مشياش، تحت عنوان “فيدرالية كانتونات، مناطق ذاتية الحكم؟ فجأة الكل، وهو منشور في صحيفة “هآرتس”، يوم 5 أيار 2023، وقدمت له وترجمته الدكتورة غانية ملحيس، ونشرته بالعربية في ملتقى فلسطين.
يتحدث هذا المقال عن تقسيم إسرائيل، ويستعرض الأفكار المتداولة الرامية التي توضح عمق المأزق الوجودي، وتقدم الحلول الرامية إلى بقاء إسرائيل على الرغم مما تعانيه.
ويسلط مشياش في مقاله الضوء على الجدل المتنامي داخل المجتمع الصهيوني، الذي يحفزه أساسًا الإحساس بالخطر الوجودي، والسعي إلى الحفاظ على استمرارية الدولة الصهيونية، وحمايتها من خطر التفكك والاندثار، في ضوء اتساع الفجوات بين مكونات المجمع الاستيطاني الصهيوني.
بات دعاة تقسيم إسرائيل، من خلال اقتراحات بتطبيق الحكم الذاتي، والفصل بين المكونات المختلفة، خصوصًا المتدنيين والليبراليين، وصيغ فدرالية مختلفة وغيرها، أكثر من مجرد أفراد نخبويين، بل أصبحت الآراء التي يطرحونها تلقى اهتمامًا وانتشارًا وتأييدًا ملحوظًا ومتزايدًا، ويرون أنها حلول قد تنقذ إسرائيل من نفسها، ومن مصير ينتظرها إذا لم تعالج مأزقها البنيوي. أما الغائب الأكبر عن هذا الحوار الإسرائيلي فهو الموضوع الفلسطيني؛ إذ لا ينظر المعسكران المتخاصمان إلى أنه يشكل خطرًا جديًا على الأقل في هذه المرحلة.
لنجعل الذكرى بداية لحملة عالمية لعزل إسرائيل ومحاسبتها على جرائمها لنجعل من الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة بداية العد العكسي للمشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري الاحتلال الإجلائي، الذي جسدته إسرائيل، من خلال العمل على وقف التعامل الدولي مع إسرائيل بوصفها دولة فوق القانون الدولي، والشروع في حملة عالمية لإسقاط الحكومة الإسرائيلية الحالية، وعزلها، ومحاسبتها، وفرض العقوبات عليها، ومحاكمة إسرائيل على كل الجرائم التي ارتكبتها ضد الفلسطينيين والعرب منذ تأسيسها وحتى الآن.
تتصور الحكومة الكهانية أنها قادرة – بعد تجاوز المأزق الحالي، أو من أجل التهرب منه وتوحيد الإسرائيليين خلفها – على حسم الصراع بسرعة مع الفلسطينيين، وليس بشكل بطيء، من خلال صيغ خادعة عن إشاعة وهم إمكانية التوصل إلى تسوية تارة، وإدارة الصراع تارة ثانية، وتقليص الصراع تارة ثالثة، وهي كلها صيغ تهدف إلى تحقيق هدف واحد، وهو تصفية القضية الفلسطينية من مختلف جوانبها وأبعادها. وتراهن حكومة نتنياهو على الوقت وعلى اليمين واليمين المتطرف في الولايات المتحدة، والغرب عمومًا، وعلى المسيحيين الصهاينة، وعلى عودة دونالد ترامب أو رئيس جمهوري آخر في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة في تشرين الثاني من العام 2024 سيسعى إلى تمكين الحكومة الإسرائيلية من تحقيق أهدافها.
إن لدى الفلسطينيين، والعرب، وأنصار الحرية والعدالة والتقدم والديمقراطية في كل العالم، بما في ذلك إسرائيل، فرصة تاريخية في ظل مأزق المشروع الصهيوني والمتغيرات في المنطقة والعالم؛ لفتح طريق جديد قادر على هزيمة المشروع الاستعماري الاستيطاني، وتفكيك نظام الامتيازات العنصري، وإقامة دولة ديمقراطية من دون تمييز بين مواطنيها على أساس الجنس واللون والدين والمعتقد والقومية.