بقلم اللواء المتقاعد: أحمد عيسى المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
أنهت القمة العربية رقم (32) التي انعقدت في جدة، أعمالها يوم الجمعة الماضي الموافق 19 ايار/مايو، بتلاوة البيان الختامي (إعلان جدة) من قبل كل من وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، وأمين عام جامعة الدول العربية السيد أحمد أبو الغيط في مؤتمر صحفي مشترك عقد في مكان انعقاد القمة.
ويرى كثير من المراقبين العرب وغير العرب المتخصصين في متابعة القمم العربية وتفسير مخرجاتها، أن مخرجات هذه القمة ربما تكون الأهم في مخرجات القمم العربية السابقة ال (31).
من جهتها ترى هذه المقالة أن أهمية هذه القمة تكمن في السياق الإستراتيجي المحيط بانعقادها، وفي دلالاتها بانها أعلنت عملياً نهاية أكثر من عقد عاشه العالم العربي تحت عنوان الربيع العربي ساهم في سقوط عدد من الجمهوريات العربية وأسفر عن مقتل وتهجير الملايين من المواطنين العرب، وأخيرا في مخرجاتها وما تضمنته من مقاربات واعدة بمستقبل أفضل للأمة العربية، لا سيما للأجيال الشابة منه.
فمن حيث السياق الإستراتيجي المحيط بانعقاد القمة فيتجلى في تزامن انعقادها مع وصول حالة تحول النظام الدولي وكذلك الإقليمي الى نقطة الذروة، لا سيما بعد إندلاع الحرب الروسية الأطلسية على الأرض الأوكرانية قبل أكثر من عام، صحيح أن النظام الجديد لم يقف على قدميه بعد، إلا أن معالمه أصبحت واضحة، وأن النظام القديم الذي ظلم كثيراً اقليم الشرق الأوسط خاصة فلسطين ومواطنيها، لم ينتهي بعد، إلا أنه يترنح ويفقد نفوذهوثقة العالم به.
وعلى ذلك كان واضحاً إن في مداخلات القادة العرب أو في نص إعلان جدة، أنه على الرغم من التحديات المتضمنة في حالة التحول التي يشهدها النظام الدولي، إلا أن هذا التحول يتضمن بالمقابل حزمة من الفرص التي يتوجب على القادة العرب إستثمارها لنقل العالم العربي من أمة أجيرة وتابعة للغير، إلى أمة شريكة في بناء النظامين الدولي والإقليمي، لا سيما وأنها أمة تمتلك من المقوماتالبشرية والإقتصادية والثقافية والحضارية فضلاً عن الموقع الجغرافي ما يجعلها سيدة في إقليمها وقطباً محورياً فاعلاً ومقرراًفي النظام الدولي.
وفي هذا السياق أتت إستضافة القمة للرئيس الأوكراني والسماح له بإلقاء كلمة في جلستها الإفتتاحية، ثم إعلان وزير الخارجية السعودي عن إستقبال القمة لرسائل مباركة وتهنئة من كل من الرئيسين الصيني والروسي أبرز منافسي واشنطن والغرب، كمؤشرات ذات دلالة على أن العالم العربي في الوقت الذي يتموضعفيه الى جانب القوى الساعية الى تغيير نظام القطب الواحد وإستبداله بنظام متعدد الأقطاب يكون العالم العربي أحد أقطابه مفاعيله الأساسية، إلا أنه يبقى صاحب رؤية مستقلة تحركها المصلحة.
أما من حيث الإعلان عملياً عن نهاية حقبة العشرية السوداء، فقد تمثل بوضوح أيما وضوح في قرار مجلس الجامعة العربية علىعودة سورية لجامعة الدول العربية، أو عودة الأخيرة لسورية رغم اعتراض واشنطن والبعض من حلفائها على هذا القرار، ثم فيحضور الرئيس السوري بشار الأسد للقمة بعد إستبعاد دام لأكثر من عقد من الزمن.
وتظهر هذه العودة الميمونة لسوريا لمكانها في المنظمة العربية، لا سيما وأنها عادت بموقفها وتحالفاتها ومبادئها وانتمائها، إقرار الجامعة العربية الصريح (وإن جاء هذا الإقرار متأخر)، بفشل سعي أمريكا وشركائها من العرب (دول وتنظيمات سياسية) وغير العرب، إلى إسقاط الدولة السورية ونظامها وتحويلها، من دولة عربيةقومية محورية الى دولة ليست تابعة للغرب وحسب، بل ومعاديةللدول والقوى السياسية العربية التي لا زالت متمسكة برؤاها القائلةأن إسرائيل ما هي إلا مشروع إحتلال عسكري واستعماراستيطاني غربي لفلسطين تقوده أمريكا وبريطانيا.
فضلاً عن خطابها الصريح الثابت أن الغاية من إحتلال فلسطينوتهجير سكانها وصناعة إسرائيل في المنطقة، هي الهيمنة من خلالها على العالم العربي وتحويله ضمن عملية طويلة ومعقدة، منمنطقة تعتبر مهد الحضارات والثقافات والديانات، ولطالما كانترائدة في مسارات ترقي وتطور الأمم عبر التاريخ، الى منطقة لا يمكن لها إلا أن تكون دفيئة لتفريخ الإرهاب والعنف والتطرفوالتخلف والجهل، وذلك لجهة السيطرة على عقول المواطنين العربقبل السيطرة على مواردهم الغنية والمتنوعة، وموقع وطنهمالإستراتيجي الذي يتحكم بالممرات المائية والبرية التي تربط الشرق بالغرب.
ومن حيث المخرجات فقد تجلت في نص البيان الختامي (إعلان جدة)، إذ رسم البيان خلافاً للبيانات الختامية للقمم السابقة خارطة طريق تقودها المملكة العربية السعودية (الأمر الذي يعتبر سابقة في تاريخ القمم العربية) لبلوغ الغايات والمقاصد المعلن عنها صراحةوالتي تشكل حلماً للمواطنين العرب من المحيط للخليج.
وكانت هذه المقاصد قد أدرجت تحت العنوان غير الرسمي للقمة(التجديد والتغيير)، ثم في إعتمادها مقاربة الأمن والإستقرار والتنمية المستدامة التي تبدأ بالإنسان كشرط أساسي لحماية الدولة ومؤسساتها وكضرورة حيوية للنهضة وبناء المستقبل، إذ يظهر النص أن مصطلحات الأمن والتنمية المستدامة مقارنة بالقمم الخمس التي سبقت قمة جدة كانت هي المصطلحات الأكثر تكراراً خلال النص، إذ تكرر مصطلح الأمن بواقع 16 مرة خلال النص، فيما تكرر مصطلح التنمية المستدامة بواقع 12 مرة، فيما خلت البيانات الختامية للقمم الخمس التي سبقت قمة جدة من هذامصطلح التنمية المستدامة تماماً.
وكان من اللافت خلو نص البيان الختامي هذه المرة مقارنة بالقمم السابقة من مصطلح الإرهاب، إذ فيما تكرر مصطلح الإرهاب في قمة الجزائر 2022 بواقع 4 مرات، وبواقع 16 مرة في قمة تونس 2019، وبواقع 20 مرة في قمة الظهران 2018، وبواقع 14 مرة في قمة البحر الميت 2017، الأمر الذي بحد ذاته لا يخلو من دلالة.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فصحيح أنها أدرجت كبند أول في النص، وليس في ذلك جديد، فهذا هو موقعها في كل البيانات الختامية للقمم العربية السابقة، لكن اللافت هذه المرة أن القضية الفلسطينية وردت نصاً أنها أحد العوامل الرئيسية للإستقرار في المنطقة، إذ لم يتم تأكيد النص أنها مفتاح الإستقرار في المنطقة،وفيما لا نبالغ بإعتبارها حقاً هي مفتاح الإستقرار في المنطقة حتى وإن تعددت عوامل الإستقرار، إلا أن الشعب الفلسطيني يأمل أن يكون المعني المتضمن في إعتبارها العامل المفتاح للإستقرار في المنطقة هو الباعث والمحرك للسياسات العربية في مرحلة ما بعد القمة، لا سيما في شروع الدول العربية تقديم مرافعاتها المكتوية لمحكمة العدل الدولية التي ستنظر في اكتوبر القادم ماهية الإحتلال لمناطق الدولة الفلسطينية الموعودة وفقاً لطلب الرئيس الفلسطيني صراحة من القمة.
وأخيراً ما تقدم ليس أكثر من قراءة تحليلية لوقائع القمة ومخرجاتها، قد يكون نصيبها من الصواب بقدر نصيبها من الخطأ، وهنا قد يجادل البعض أنها قراءة رغبوية حالمة للقمة ومخرجاتها، لا سيما وأن الإرادة الجرأة تغيب عن القيادة العربية، وهذا جدل بلا شكمشروع، ولكن هذا لا ينفي أن هناك فرصة أمام العرب في اللحظة الراهنة يتوجب عليهم إستثمارها حتى الرمق الأخير ليتبوءوا مكانتهمالتي يستحقون بين الأمم.