فكرة “التجديد” عند “الجهاد الإسلامي”..

بقلم : د. وليد القططي:

أدى غموض مفهوم “التراث الإسلامي” إلى إشكالية مفاهيمية وعملية مزدوجة مرتبطة بالتجديد في الفكر الإسلامي. الوجه الأول للإشكالية يتمثّل بوجود تيار علماني تغريبي أدخل الوحي الإلهي (النص الديني) في مفهوم التراث الإسلامي، والوجه الآخر للإشكالية يتمثّل بوجود تيار ديني سلفي أدخل الاجتهاد البشري (الفكر الديني) في مفهوم الدين الإسلامي. 

والتياران – المتغرّب والمتسلّف – لم يميّزا بين الوحي الإلهي والاجتهاد البشري، ولم يفرّقا بين النص الديني والفكر الديني، فتطرّف التيار المتغرّب مُستبدِلاً تجديد التراث بتحييده واستبعاده لتعيش الأمة مبتورة عن ماضيها وتاريخها، وتطرّف التيار المتسلّف مستبدِلاً تجديد التراث بتجميده واستدعائه لتعيش الأمة غارقة في ماضيها وتاريخها. 

انتبهت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين إلى هذه الإشكالية فميّزت بين النص الديني كوحي إلهي والفكر الديني كاجتهاد بشريّ، وأدركت أنّ التراث الإسلامي هو نتاج تفاعل عقول المسلمين مع نصوص الدين وليس هو الدين نفسه، فكان نتاج هذا التمييز والفهم موقفاً متوازناً بين المستبعِدِين للتراث لدرجة الإلغاء والمستدعين له لدرجة التقديس.

فسجّلت في وثيقتها الفكرية هذا الموقف تحت عنوان “التراث الإسلامي” بهذا النص: “التراث هو ما تركه السلف للخلف، وما عدا الوحي، فهو ليس معصوماً أو غير قابل للنقد، والموقف المتوازن منه ليس تقديسه أو الانسلاخ عنه ورفضه، بل هو العمل على التنقية والانتفاع بكل صالح فيه، بما يسهم في الارتقاء بحاضر الأمة ويحقّق استمراريتها التاريخية والحضارية”.

وكان من الطبيعي بعد هذا التمييز والفهم أن يكون التجديد والاجتهاد وفق رؤية الحركة “فريضة دينية وضرورة إنسانية”، لأنَّه يحقّق مقاصد الدين ويُلبّي حاجات المجتمع، كما جاء في وثيقتها الفكرية تحت عنوان “الاجتهاد والتجديد”، إدراكاً من قناعتها بشرعية نقد التراث الإسلامي وفق ميزان القرآن والسُنَّة، ومبدأ الاعتدال في تقويم التراث وفق معيار العدل الذي يميّز بين الوحي الإلهي والاجتهاد البشري. 

وترى الحركة أهمية التوفيق بين التراث والتجديد بالأخذ من التراث ما يتفق مع الإسلام ومصلحة المسلمين، وترك ما لا يتفق مع الإسلام ويضرّ المسلمين، وهذا ينسجم مع ما جاء في الوثيقة الفكرية للحركة تحت عنوان “الفكر الإسلامي” ومنه: “الفكر الإسلامي ليس الإسلام، فالإسلام هو الوحي الإلهي في كتاب الله والسُنّة النبوية الصحيحة، والفكر الإسلامي هو فهم علماء المسلمين للإسلام واجتهاداتهم وآرائهم فيما لا نص فيه، أي أنه فكر إنساني في دائرة الإسلام يؤخذ منه ويترك”. 

فكرة التجديد عند “الجهاد الإسلامي” كانت واضحة منذ نشأتها كما أكد مؤسسها المفكّر الشهيد فتحي الشقاقي بقوله: “حركة الجهاد الإسلامي ليست مجرد مجموعات عسكرية مُقاتلة كما تصوّر أو سألنا كثيرون، ولكنها إضافة إلى ذلك وربما قبل ذلك، رؤية متجددة في العمل الإسلامي، رؤية منهجية تُجدّد بوضوح ووعي فهمها للإسلام وللتاريخ الإسلامي ولحركة التاريخ كما للعالم والواقع أيضاً”. 

وفي مواضع أُخرى جاءت في كتاب “رحلة الدم الذي هزم السيف… الأعمال الكاملة للشهيد الدكتور فتحي الشقاقي” وصف حركته بأنها: “قوة تجديد داخل الفكر الإسلامي”، و”إسهام فكري متجدّد على الساحة الإسلامية عامة والفلسطينية خاصة”، و”رؤية حضارية داخل الحركة الإسلامية”، و”فهم متميّز حول العلاقة بين الإسلام وفلسطين”. ولذلك فقد عدّ التجديد أحد أهداف النضال بقوله: “علينا أن نناضل من أجل التنوير والتجديد والتثوير”. 

فكرة التجديد كانت واضحة في أُطروحة التجاوز الفكري التي قدّمتها حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين كمسار طبيعي بعد مساري الامتداد والنقد، امتداد للفكر الإسلامي والحركة الإسلامية، ونقد لهما يتضمّن عمليتي التقييم والتقويم أو التشخيص والعلاج. 

والتجاوز سيؤدي حتماً إلى معركة فكرية مزدوجة كما ذكر المفكّر الشهيد فتحي الشقاقي بين “البدائل العلمانية المرتبطة بالاستعمار فكرياً” الرافضة للتراث الإٍسلامي والمؤيّدة للتجديد خارج السياق الإسلامي، ومع “الأجنحة المتخلّفة في الحركة الإسلامية” المُقدِّسة للتراث والتي تتخذ موقفاً سلبياً متشكّكاً من التجديد داخل السياق الإسلامي. فأثْرت هذه المعركة المزدوجة أطروحة التجاوز والتجديد في الفكر السياسي والديني لحركة الجهاد الإسلامي. 

فكرة التجديد في الفكر السياسي كانت في الإجابة على السؤال الفلسطيني إسلامياً، والإجابة على السؤال الإسلامي فلسطينياً، وكانت خُلاصة هذه الإجابة الجمع بين الإسلام كمنطلق ومرجعية، وفلسطين كهدف وقضية، والجهاد كوسيلة ونهج. والقراءة الواعية للقضية الفلسطينية بأبعادها المرتبطة بالإسلام والتاريخ والواقع فخرجت برؤيتها مركزية القضية الفلسطينية للحركة الإسلامية والأمة الإسلامية. 

ومن نتائج هذه الإجابة إنهاء الفصام النكد بين الإسلامي والوطني، وبين الإسلامي والقومي، فكانت حركة وطنية بمرجعية إسلامية أو حركة إسلامية قضيتها المركزية وطنية، وإشعال فتيل الجدل الحي البنّاء حول إشكالية وجود إسلاميين من دون الجهاد في فلسطين ووطنيين من دون الإسلام كنظرية ثورية ومرجعية نضالية، فكان الاجتهاد السياسي الأهم هو “الجهاد الآن في فلسطين” في إطار مشروع فكريّ وجهاديّ متكامل. 

فكرة التجديد في الفكر الديني كانت في تبنّي الحركة لمدرسة الإحياء الديني والبعث الإسلامي التي أسسها الإمام جمال الدين الأفغاني وامتدت إلى الشيخ محمد الغزالي وتلاميذه، التي تُركّز على: وحدة الأمة الإسلامية، والمشروع الحضاري الإسلامي، ووسطية الإسلام والأمة، وصلاحية الإسلام لقيادة البشرية، والعودة إلى النبع الصافي حقّ القرآن والسُنَّة، والتجديد المعاصر للفقه والفكر، والجمع بين الأصول والإبداع في التراث، والتيسير في الفقه، والتبشير في الدعوة، والروح في العبادة، واليقين في العقيدة، والالتزام في الأخلاق. 

وانسجاماً مع هذه المدرسة الإصلاحية التجديدية قدّمت الحركة اجتهادات فكرية تحت عناوين مختلفة أهمها: الثورة كنتاج لتفاعل معادلة الإيمان والوعي، والتربية من خلال المواجهة والجهاد، والوحدة من خلال التعدّد، والحرية كنقيض للتطرّف الديني والاستبداد السياسي، والمنهج كطريقة للتفكير والعمل، والثقافة كأرضية للمقاومة، والفن المرتبط بقيمتي الحق والجمال، والمرأة في علاقة التحرّر الاجتماعي بالتحرّر الوطنيّ. 

من دون التجديد الفكري في مختلف المجالات تحدث الفجوة بين الدين الإسلامي وشريعته الإلهية الثابتة وبين احتياجات ومتطلّبات الواقع الإسلامي المتغيّر والمتطوّر دائماً وأبداً، فيصبح الدين جامداً ومتحجّراً وغير صالح لكل زمان ومكان. ومن دون التجديد في الجماعات البشرية بمختلف أحجامها وأنواعها تُصاب بـ: داء الجمود والتحجّر، ومرض العجز والتقليد، ومصيبة الخور والوهن… فتفقد حيويتها ورسالتها، وتموت همّتها وروحها، وتندثر إنجازاتها وقوّتها… فيستبدل الله قوماً غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم. 

وبالتجديد الفكري يحدث الارتباط بين الدين الإسلامي ومتطلّبات الواقع، فيصبح الدين صالحاً لكل زمان ومكان، وتتميّز الجماعات البشرية بالتطوّر والإبداع؛ فتزداد حيويتها وتشتعل همّتها وتتوهّج روحها وتحافظ على رسالتها الحضارية.