ربما لم يواجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس طوال فترة رئاسته، حراكاً شعبياً واسعاً في عاصمة سلطته رام الله، وفي مختلف أنحاء الضفة الغربية، للمطالبة برحيله وإسقاط نظامه، كما يواجه في هذه الأيام العصيبة، فلا يكاد يمر يومٌ دون تنظيم مسيراتٍ ومظاهراتٍ شعبيةٍ عارمةٍ تهتف ضده وتنادي برحيله، رغم السياسة البوليسية القمعية التي تتبعها الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضد المتظاهرين عموماً، وضد قادة المسيرات ورموز الحراك الشعبي خاصةً، وضد العاملين في الحقل الإعلامي من الجنسين، الذين تعرضوا وغيرهم للضرب العنيف والتنكيل الشديد، رغم أنهم يلبسون بزات الإعلام الخاصة، ويحملون شاراتها المميزة، ويؤدون في المسيرات والمظاهرات عملهم المهني في تغطيتها وتسليط الضوء عليها.
المظاهرات المطالبة بإسقاط السلطة الفلسطينية ورحيل رئيسها ليست في قطاع غزة، الذي تصفه وسائل إعلامها بأنه “متمردٌ على السلطة”، ويرفض الاعتراف بشرعيته والخضوع لإرادته، وهي ليست في مخيمات الشتات وبلاد اللجوء في مختلف أنحاء العالم، فهؤلاء جميعاً لا يخفون معارضتهم للرئيس محمود عباس وسلطته، ولا يترددون في إعلان معارضتهم له واختلافهم معه، ولا يتوقفون عن انتقاده واتهامه، وتحميله كامل المسؤولية عما آلت إليه أوضاع الفلسطينيين العامة، خاصةً بعد إصراره على التمسك بالتنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي، واعتباره تنسيقاً مقدساً وعملاً واجباً مبرراً.
لكن المظاهرات الصاخبة والحراك الشعبي المنظم هذه المرة هو في الضفة الغربية، وفي ساحة المنارة قلب مدينة رام الله، القريبة من مكتبه الرئاسي في المقاطعة، الأمر الذي يشي بأهميته وخطورته، وبعناده واستمراره، رغم حالة القمع والبطش والتنكيل والتهديد والاعتقال والتشويه.
لكن السلطة تصم آذانها وتغمض عيونها وتصر على المضي في سياستها القمعية، اعتقاداً منها أن هذه السياسة ستنفع وسَتُسكتُ الفلسطينيين وسترغمهم، وستجبرهم على القبول بها وغض الطرف عن أخطائها، فيما لا يبدو هذه المرة ممكناً وسهلاً، فالشعب مصرٌ والمعارضة تقوى، والمظاهرات تشتد، والشعارات تكبر، والتحديات تزداد، وليس أمام الرئيس محمود عباس وسلطته إلا النزول عند إرادة الشعب والقبول بقراره، أو الاستعانة بالعدو وطلب المساعدة منه، تماماً كما طلبت أجهزته الأمنية وسائل وأدواتٍ إسرائيلية للقمع ومكافحة المظاهرات والتصدي للمتظاهرين.
حالة الغليان الفلسطينية كبيرة وهي في حالة تزايد وتفاقم، ولعلها مرشحة للمزيد والجديد، والمفاجئ والصادم، فالشعب لم يعد لديه القدرة على الاحتمال والقبول، وهو لا يريد هذه السلطة التي تمعن في قتله وتصر على إذلاله وإهانته، ولعل جل الثائرين الغاضبين هم من الأجيال الشابة التي ولدت في تسعينيات القرن الماضي، ممن لم يشهدوا التوقيع على اتفاقية أوسلو، ولكنهم فتحوا عيونهم على مفاعيلها الخطيرة، وشروطها المذلة، وواقعها المخزي، ورغم أن أغلبهم من الموظفين والعاملين في مؤسسات السلطة المختلفة، إلا أن الراتب المعجون بدم الشعب والملطخ بآهاته وأحزانه لا يغريهم ولا يسكتهم، ولا يدفعهم للقبول بالواقع المرير والحال البئيس الذي يواجهونه وشعبهم.
ربما أن جريمة قتل وتصفية الناشط نزار بنات هي القشة التي قصمت ظهر بعير السلطة الفلسطينية المتهالك، أو أنها القطرة التي فاضت بها كأس انتهاكاتها وتجاوزاتها العنيفة ضد أصحاب الرأي والفكر المعارض لها، رغم أنه ليس أول ضحايا أجهزتها الأمنية قتلاً وتصفيةً في سجونها، وهو بالتأكيد يشبه عشرات المعتقلين في سجونها على خلفية مواقفهم منها ومعارضتهم لها، ممن قد يلقون بصمتٍ مصيراً أسوأ وتعذيباً أشد في زنازينها من ذلك الذي لاقاه الشهيد نزار بنات، ولكن عملية اعتقاله وقرار تصفيته فجر صاعق الثورة وأطلق لهيب الحراك الشعبي، الذي لا أظنه سيتوقف هذه المرة دون أن يحقق الأهداف التي أعلنها وضحى في سبيلها.
إنها لعنة نزار بنات التي تأبى إلا أن تثأر لروحه وتنتقم لحياته، وأن تخلص لمبادئه وتحافظ على أفكاره، وأن تبقي ثورته وتسعر جذوته، فهل يصغي الرئيس الفلسطيني محمود عباس لأصوات المتظاهرين وهتافاتهم التي بلغت الجوزاء علواً، وتجاوزت الضفة الغربية والمناطق الفلسطينية حراكاً، ويتعلم من سابقيه ويتعظ، ويعلن تنحيه واستقالته من منصبه، أو حل سلطته وتسليم مفاتيحها إلى صانعها الأصيل والمستفيد الأول منها، أم يصر ويعاند، ويتبجح ويكابر، فيصيبه ما أصاب المتكبرين، ويلحق بالأولين والآخرين، الذي أصموا أذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصرووا واستكبروا استكباراً، فقتلوا أو خسفت بهم الأرض، أو أخذتهم العزة بالمعصية فانشق بهم البحر وأغرقهم، وأبقاهم للعالمين ذكرى وعبرةً وعظةً.