جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
إن كثافة استدعاء تاريخ أو فترات زمنية من زمن مضى هى كاشفة عن نمط تفكير وطبيعة مرجعيات شخص ما أو مجتمع ما، وهى تعبير دال عن طريقة استقبال الوقائع المستجدة بينما تصعد فى خطو الزمان المستمر، وحيث يتم التماس والالتصاق بنقاط محددة فى شريط تراكم زمني يشكل ماضيا ممتدا تتناثر على مداره الذكريات، لحظات ووقائع مضت تشكل نتوءات ووقفات بارزة لا يمكن القفز عليها من وجهة نظر الشخص، وبينما تخوض غالبية قطاعات الناشئين الحياة لتصنع هذا التراكم المستجد وغير مقيدة بشريط الماضى، فإن الأجيال الأكبر سنا والتى قطعت أشواطا ممتدة فى الحياة يعيش معظمها أيام عصره محتشد عقله وخياله بذاكرة تكاد تكون مكتملة من الماضى، وحيث ترى المستقبل هكذا من زاوية إحصائية ربما قصير المدى ومن ثم تتخذ قرارا ضمنيا بأنه قد لا يخصها كثيرا، وحيث فى عرفها لن تتناثر الذكريات والأحداث الشخصية بكثافة على منحنى خطواته، وهنا تمسكا بطول الحياة وعرضها التى خاضوها – والذى مضى- يتم صك وتدشين أسطورة وخيالات مفهوم الزمن الماضى الجميل، مظلة هوى واحتفاء أثيرا وقفزا متعمدا تصنعه الذاكرة بوعى ودأب على كل ما يكون قد ساء أو أحزن أو أهم وأتعب فى ذلك الزمان الذى مضى.
وحيث يحلو لكثير من هؤلاء البشر أن يصفوا زمنا عرفوه وأياما عاشوها بطريقتهم لبيان خصوصيتها وفرادتها، وهكذا يضعوها متألقة بارزة ويتفقون طوعا على أن تكون تلك هى أيام الزمان الجميل وبالمفارقة والتباين والقراءة الدلالية العكس يكون كل ما بعدها أو لحق بها أو ينتظر أن يأتى بعدها- مع يقينهم بأن الغيب دوما فى علم الله- لا يطال قامتها زهوا وجمالا ولا يقارب عتبات نوستالجياتها الممتدة حنينا وشجنا، وحيث ربطت الذاكرة البشرية ذلك تجربة وقياسا بفكرة التقدم كثيرا فى العمر، وقد صاغ زهير بن أبى سلمى ذلك فى معلقته شجنا آخاذا ” وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ “، وحيث تكفلت الذاكرة العربية مشافهة وتوثيقا استدعاء وتداول ذلك البيت تعبيرا أثيرا عن رؤيتها وعلاقتها الزمنية بمستجدات الحياة.
تحت وطأة هذا التصور وذلك الزمن يتم تكبير النقاط المضيئة فى ماضي حياة الشخص أو فى تاريخ المجتمع لتشكل نجوما زاهرة، ثم تتضخم لتكون حاجبة للحقائق ثم صانعة لإطار مدهش بديل لا تظهر الخفايا “الصعبة” والأحزان والإخفاقات فى ثناياه، ويتشكل مطلق جديد يتم زرعه فى أرض المطلقات الحياتية التى يحلو للبشر أن يقبعوا فى كهوف جبالها، متلذذين بتناول سوائل حكاياتها شرابا سائغا مخلصا فى ماضويته.
وعبر الوقت يتشكل وهم ما مضى كله هكذا كتلة كلية “جميلة”، البشر والغناء والطعام والهواء وحتى لون السماء، نقطة حنين ضخمة مصطنعة يجلس فى رحابها المنشدون ويقبعون فيها زمنا لا يبارحونه، حيث يقوموم متعمدين بإخلاء كامل مساحة الزمن الماضى المحبب لديهم من كل سوءات وأزمات يعرفونها يقينا ويقفزون عليها تعمدا فيصنعون ظهورا مبهرا لأحداث أخرى أجمل يعرفون بها ذلك الزمان فيصير كله فى عرفهم أبهى.
ستعنى كثير من الأعمال الأدبية والفنية من دون تعمد ببناء جدران هذا الزمن الجميل، وستحمله عناوين كثيرة كليشيها شائعا، وسيتكفل كثيرون من دون نداء يجمعهم ومن دون اتفاق فى الموعد بنثر بذوره داخل كل أسرة فيتكون ويحضر كامل مشهد الزمن الجميل تفاصيلا خلابة، والذى سيكون تأكيد خصوصية جمالياته لايكتمل سوى بالحديث عن غياب عناصره ومفرداته فى الحياة، وحيث يقوم حكائو ذلك الزمن الماضى بالحديث عنه كأنه شئ غامض زار الأرض ذات مرة واحدة عاصروها، وفارقها وترك حلم عودته قائما.
ربما يجدر القول أنه لم يوجد ذلك الزمن المصفى نقيا هنيئا من عاديات البشر أبدا، وقد وصف الله تعالى الحياة جميعها بأنها كبد، ولم يوجد حتى فى تاريخ الشخصيات والمجتمعات شيئا مما صنعه الناس مطلقا فى خيالهم وعاشوا به على أنه زمن جميل عذب، حيث لم يكن الزمن يوما سوى ماعرفه الكل، تدور داخله فى توال محكم الطيبات والسيئات من الأشياء تحملها الأيام وتمضى معها، وقد يكون “تعب الحياة” لدى جيل وأجيال ما مؤشرا على كثافة إستدعاء نقاط ماضية من تواريخهم الشخصية كانت فى نظرهم أفضل، فتكبر وتصع أسطورتها وحيث يخلو كل العالم فيها من الشرور، ولكن علينا أن نتذكر أنه ومنذ بدء الحياة وبينما كان العالم براحا ممتدا كاملا أمام قابيل وهابيل وفى طور أول الخلق تمت الجريمة الأولى والأبشع معا والتى تؤرخ لتاريخ بدء التدافع فى الكون، كأن ذلك يشكل نتوء لايمحى تعريفا أبديا بجوهر فى صيرورة مصائر البشر فى الحياة كدا وتعبا وحزنا وبعض فرح، وتذكير للبشر بأن يعيشوا الحياة حاضرا يوما بيوم استقبالا وتفاعلا دون أن يلقى تاريخ ما أو ماض ما أو حتى رهبة وتحسب لمستقبل ما بظله حاجبا، أو هكذا فطرة الخلق حيث شاء الله لهم أن يخوضوا الحياة وأن يمضوا في مواكبها سعيا وكدا وكبدا وأملا معا.