يخوض الفلسطيني الأزمات المعيشية اليومية جنباً إلى جنب مع المعارك الكبرىوطغيانها على قضيته الوطنية، ليبقى على قيد الحياة في انتظار أزمات ومعارك قديمةجديدة قد تُفرض عليه.
وما زال هنا محاولاً تغيير وضعه للأفضل وقهر الظلم والاضطهاد. وإذ يعتبر هذا نصراً، إلاأنه في الواقع مجرد نصر لم يتحقق، وصمود بطعم القهر والظلم، في انتظار الانتهاء منآثار الانقسام السياسي الداخلي، ومن عدو لا يحترم أي قيمة إنسانية، يرتكب الجرائمويعزز الانقسا والفصل من خلال سياساته في تفكيك المجتمع الفلسطيني.
منذ عام ونصف العام، والعمليات الفلسطينية المسلّحة تتصاعد، بخاصة في شمال الضفةالغربية المحتلة، (جنين ونابلس)، وقد فشلت المنظومة الأمنية الإسرائيلية بوقفها. ودشّنالجيش الإسرائيلي عملية عسكرية همجية في نهاية آذار/ مارس من العام الماضي، أطلقعليها اسم “كاسر الأمواج”، وهي مستمرة ولم تنتهِ، وتم نشر أكثر من 20 كتيبة منالجيش الإسرائيلي، كان الهدف منها بحسب وسائل إعلام إسرائيلية، سد الثغرات فيالسياج الفاصل بين طرفي الخط الأخضر، وتحقيق المزيد من الردع بالقتل والاعتقالاتوهدم البيوت.
لم يتوقف الجيش الإسرائيلي طوال الوقت عن عمليات الاقتحام في كل مناطق الضفةالغربية، بما في ذلك المدن الفلسطينية المصنفة ضمن المنطقة “أ”.
العدوان أو ما يسمى العملية العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، ما زال مستمراً،ولم يتوقف في أي يوم من الأيام، وترتكب قوات الجيش الإسرائيلي جرائم وانتهاكاتلحقوق الإنسان الفلسطيني. وعلى الرغم من الإجراءات والسياسات العدوانية والعقوباتالجماعية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي والعمليات العسكرية الإجرامية اليومية منقتل واعتقالات، وهدم بيوت في الضفة الغربية، إلا أنه لم يستطع وقف العمليات أو ردعها.
بدأ الجيش الإسرائيلي عمليته العسكرية الإجرامية على جنين بقصف جوي من الطيرانالحربي، لعدد من الأماكن التي يدّعي أنها لقيادة الفصائل المسلحة، من بينها مسرحالحرية الذي تم تدميره بالقصف، بذريعة القضاء على المقاومة الفلسطينية في جنين.
العملية العسكرية حملت عنوان “بيت وحديقة”، ووصفها الكاتب الصحافي أوري مسغاففي “هآرتس” بالقول، “الاسم غبي كالمعتاد. كان من الأفضل أن نسميها حارس مطار بنغريون، جرف برايتون، حماية الانقلاب، سور درعي. هذه عملية استُخدم فيها جنودالجيش الإسرائيلي ووسائل الإعلام المعبأة والمجندة والمعارضة الخائفة لحرف الانتباه عنشهادة ميلشان الفاضحة، عن الانقلاب القضائي، والاحتجاج المدني، وخضوع نتنياهوالكامل لرؤساء الوزراء الحقيقيين (سموتريش، بن غفير، درعي)”.
استمرت العملية يومين، وجندت إسرائيل 150 مركبة عسكرية، و1000 جندي من بينهمالقوات الخاصة المختلفة الدوفدوفان، وأغوز، ويهلون، وماجلان، وغيرها من الوحداتالتابعة للشاباك وحرس الحدود، والتي تتجاوز المعارك مع المسلحين والاعتقالات، وركزتعلى مصادرة الأسلحة وكشف معامل المتفجرات.
ووفق وزارة الصحة الفلسطينية، قتل 13 فلسطينياً، وارتفع عدد المصابين في المخيمومحيطه إلى 100، بينهم 20 في حالة الخطر.
ونقلت صحيفة “هآرتس”، قصص النزوح والتهجير القسري، فميسون، وهي أم لسبعةأطفال، غادرت مخيم جنين للاجئين، بعدما طلب الجيش الإسرائيلي من السكان عبرمكبرات الصوت: “من يريد المغادرة فليرحل”. وتقول إن قرار المغادرة جاء بعد محادثة معأحد الجنود. وتقول ميسون: “سألت الجندي عما ستفعله وما إذا كانت هناك نية لقصفالمنزل، فصرخ علي بالعبرية (اخرسي). لذلك قررت الخروج مع الأطفال”. وتضيف،“صحيح أننا في مخيم للاجئين، لكن بالنسبة إلينا هو موطن لكل شيء، نريد العودة إليهفي أسرع وقت ممكن. آمل ألا يتضرر المنزل”.
كما تصف إحدى الفلسطينيات من سكان المخيم التي غادرت المخيم، كيف اقتحمت القواتالعسكرية منزلها ودمرت كل شيء في المنزل، “أمرنا الجيش بمغادرة المنزل، ولم نتمكن منالعودة إلا في الخامسة مساءً. عندما عدنا إلى المنزلهم، رأينا أن الجنود فككوا شاشةالتلفزيون، وفتحوا الخزائن، والثلاجة، ولدي خريطة لفلسطين مفصّلة من التطريزالفلسطيني مسحوا “كلمة فلسطين وكُتب بدلاً منها (إسرائيل)”.
يبدو المشهد سريالياً، وتكرار الطقوس وقصة القدر والموت وانتظاره، والتهجير القسري،في مشهد للنكبة الفلسطينية ومحاولات تكرارها، وهمجية الاحتلال لم تغب، غارات جويةمركزة، وقصف البيوت، والإجراءات المضادة المستهدفة وحالة ذعر مستدامة، والموت بشكلأساسي أصبح من طقوس حياة الفلسطينيين، وصرخات الضحية مصحوبة بدعواتلإبادة الأحياء.
وبالمقارنة مع ما حدث في اجتياح الضفة الغربية عام 2002، وما أطلق عليه اسم “عمليةالسور الواقي” وهدم مخيم جنين وتجريفه، فقد تم في حينه، مسح مخيّم جنين عن آخره،بعد مقتل 13 جندياً إسرائيلياً بكمين نفّذه مسلحون فلسطينيون داخل المخيّم في التاسعمن نيسان/ أبريل 2002، ما دفع وقتها بجرّافات المجنزرة المدرّعة العملاقة (D9) بغرضتركيع المخيّم عبر تحويله إلى ركام.
ممّا ذكره موشيه نسيم، أحد سائقي الجرّافات، أنّه “على مدار ثلاثة أيّام، كنت أهدم وأهدمفقط، وسوّيت بالأرض منطقة تساوي في مساحتها مساحة ملعب “تيدي” لكرة القدم فيالقدس”. كانت الحصيلة مسح ما لا يقلّ عن 400 بيت من بيوت المخيّم، وسقوط العشراتمن أهله، منهم من قتلوا أحياء تحت الردم، فضلاً عن مئات الجرحى والمعتقلين وآلافالمشرّدين.
هذه الصور هي لمخيم مساحته نصف كيلومتر مربع، ترسخ في الوعي والذاكرةالفلسطينية، ذلك كله من أجل تكرار النكبة ودفع الفلسطينيين إلى الرحيل أو التخلي عنهويتهم الوطنية وما تبقى لهم من وطن.
استهداف جنين مجددا اليوم هو لإعادة مشاهد الدمار والخراب وجعل الفلسطينيينيعيدون التفكير في سبل مواجهة الاحتلال.. الحرب الاسرائيلية الأخيرة على جنين هيتعبير عن طبيعة النظام الإسرائيلي الفاشي العنصري، والعقيدة القائمة على القتلوالتدمير والتهجير.