تكلفة إعادة إنتاج الماضي | مصراوى

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تكاد تكون مقولة “اللي تعرفه أحسن من اللي متعرفوش” من أشهر المقولات الشعبية التي تقف ضد التطور، وربما تسببت في كثير من الرتابة والجمود في مناح عدة في حياة من يؤمنون بها سواء في حياتهم الشخصية أو في مستوى أدائهم العملي بشكل عام.
صحيح أن تطوير الواقع المعاش لا يكون خاليا من ثمن يتحمله الجميع، ولكن التطوير بكل ما يحمله من إيجابيات تحقق المصلحة العامة تكون قيمتها أعلى من تلك التكلفة المصاحبة له، خاصة وأن التطوير الذي يتحقق في أي مجتمع عادة ما تكون له عوائد كبيرة تجعل التكلفة هامشية.
والتاريخ يحمل درسًا مهمًا تلخصه مقولة الفيلسوف جورج سانتايانا: “الذين لا يستطيعون تذكر الماضي محكوم عليهم بتكراره”.
والمشكلة أن مجتمعات عدة تفشل في رسم خط فاصل بين الماضي بكل أشخاصه واعتباراته وسياساته والحاضر وربما المستقبل المطلوب صنعه ليكون أفضل من الماضي، وتتجه -باعتبار أن “المألوف يريح الجميع”- إلى إعادة إنتاج الماضي بعناوين جديدة بكل ما يتضمنه ذلك استدعاء وجوه قديمة تحاول إيهام الجميع أنها قادرة على إحداث التطوير المطلوب.
وطبعا التكلفة تكون مرتفعة إذا تحول الوهم إلى اقتناع ثم إلى تصديق ثم إلى تمكين، خاصة وأن تلك الوجوه القديمة لم تتمكن من إحداث تطوير حقيقي في الماضي وفي حالات كثيرة لم تكن ذات كفاءة عالية تؤهلها، وفق حسابات الماضي لتحمل مسئولية ما، ولكن ظلت من مستهلكي الماضي الذي صنعه آخرون لهم.
وعند تمكينها في الحاضر ففي الغالب لا تستطيع أن تحدث تطويرا حقيقيا في الواقع المعاش يعالج مشاكل موجودة يعاني منها الجميع، بل على العكس قد تعمل الواقع المعاش ليحاكي ماضيا تخطاه الزمن والشعب وكل اعتبارات التطوير والتحديث بكل ما يحمله ذلك من تكلفة عالية لا يقدر على تحملها المجتمع.
وأحد المخاطر التي تصاحب هذا التوجه هو حالة الاحباط التي قد تنتاب الشباب الذين هم السواد الأعظم من المجتمع والذين هم أول من سيتحمل تكلفة العودة للماضي، والتي ستنعكس في ارتفاع معدلات الهجرة بين الشباب للخارج أو الميل للانعزال عن الشأن العام أو الشعور بعد الرضا عن الوضع العام أو انتشار الرغبة في الانتحار أو الانغماس في فقاعة منصات التواصل الاجتماعي وغيرها.
كما قد ينتج عن ذلك تعطيل الاستفادة من موارد مهمة سواء بشرية أو مادية أو معنوية لسبب بسيط يتعلق بعدم وعي تلك الوجوه القديمة بأهمية تلك الموارد، إما لأنها لم تتلق التأهيل اللازم الذي يساعدها على توظيف تلك الموارد بشكل جيد، أو لأن تلك الموارد لم تكن موجودة في الماضي، ويعد التحول التكنولوجي وتقنيات الذكاء الاصطناعي بكل تطبيقاته الموجودة اليوم مثال جيد على ذلك.
فضلا عن ذلك، قد يساهم هذا التوجه في تعميق مشاكل يعاني منها الجميع ولها صدى اقتصادي وثقافي واجتماعي وسياسي وأمني وعادة ما يصاحب ذلك إنكار الاعتراف بتلك المشاكل بكل انعكاساتها، وهو ما يخلق فجوة بين ما يعيشه الناس وبين ما تدركه تلك الوجوه القديمة.
صحيح أن اختيار طريق التطوير ليس مهمة سهلة، ولكن يظل الثابت أن التطوير كما يرى أحد أهم ملهمي التطوير في بلدنا يحتاج إلى “امتلاك القدرة” على تحقيقه، وأن التغيير للأفضل والتحرك نحو المستقبل تقوم به سواعد الشباب المؤهل وعقولهم دون أن يقلل ذلك من أهمية الاستفادة من خبرة الأجيال الأكبر، فلا يمكن أن يصنع مستقبل سيعيشه الشباب وهم مستبعدون من المساهمة في صناعته.
والقدرة على السير بثبات في طريق التطوير والتغلب على ما به من صعوبات تتطلب الاختيار الجيد لمن ينفذ عملية التطوير، ولمن يفكر لها، ولمن يتابعها، وفق معايير واضحة تتعلق بالتعليم والمهارات والكفاءات المكتسبة بحكم الخبرة، بعيدًا عن الأهواء الشخصية. وهنا تأتي أهمية دراسة وفحص ماضي من يتم اختياره بهدف معرفة الخبرة السابقة دون أن يعني ذلك النظر للأشخاص على أنهم حبيسي الماضي أو الحكم عليهم وعلى إمكانياتهم وفق ماضيهم، فمن المتعارف عليه أن قدرات الإنسان تتطور بمرور الزمن وأن هناك فوارق فردية في مستوى تطور قدرات البشر وأن حاضر الأشخاص يتأثر بماضيهم بدرجة ما.