أجرى الحوار: د. سمير محمود
تعتمد الروائية السورية الدكتورة بهية بشير كحيل أسلوب السرد الذي يخترق الحياة ويشتبك مع الواقع، وقد اختارت أن تكون صوتًا معبرًا عن البسطاء الذين كانوا وقوداً لرجال السياسة في معاركهم على النفوذ، المستضعفين الذين يعيشون قرب أديم الأرض التي شهدت هزيمة المكان، والإنسان، والوطن والعقائد، وكل كتاباتها وأعمالها القصصية والروائية هي صرخة يائسة من داخل هذا الكابوس، بوق استغاثة في الصحراء الكونية الشاملة، تطلقها من قاع المحنة السورية في عشرية سوداء، صرخة تقول: نحن عزَل ووحيدون عاجزون بلا أمل، أو مخرج، وهذا ما يتضح في رواياتها “كمنديل في الريح” “زمن الوحل والدم”، و”للوداع طقوس”، وهي ترى أن حالة روحية شديدة الحساسية ترتقي بالكاتب الى نبش ما يؤلمه، ما فاق طاقته على التحمل ….. هي خلاص روحي، ومعها كان ل هذا الحوار.
– أود بداية تقديمك للقراء ومعرفة علاقتك بالأدب خاصة وأنت طبيبة أسنان ولك أدوارك في العمل العام؟
أنا خريجة جامعة حلب _ كلية طب الأسنان _ عضو اتحاد الكتاب العرب _ جمعية القصة والرواية، أم لأربعة أبناء، صغيرتهم بستان بهجة.. كبيرهم هلال وصلاة، أما الأوسطان فالفتاة عالم مليء بالألوان والفتى كرنفال وشراع أخت كبرى لعائلة مؤلفة من أحد عشر شخصاً وأب وأم، عشنا الفقر ولكن بكبرياء، فرحنا ننحت الصخر بصبر وجلد ليشق كل منا طريقه في هذه الحياة.
أحببت العلم منذ صغري ملأ حواسي، وشغل وقتي، وأحببت العمل الاجتماعي فكنت فتاة شغوفة بالمناسبات الوطنية والاجتماعية، والاحتفالات المدرسية، وقد بدأت ميولي الأدبية تتضح في المرحلة الاعدادية عندما كانت مدرسة اللغة العربية تثني وبشدة على مواضيع التعبير والانشاء الاتي أكتبها في المرحلة الثانوية والجامعية كنت عضواً فاعلاً في النشاطات الطلابية وقد كانت خيبة أملنا كبيرة (فيما بعد) في معتقداتنا ومبادئنا بعد أن أصبنا بهذا الشرخ والانهدام الخطير افي وجداننا في عشرية الدم هذه، عملت طبيبة في مديرية صحة حلب، رئيسة لبرنامج التثقيف الصحي، برنامج حماية الطفل من مخلفات الحرب، برنامج القرى الصحية، أعمل في عيادتي الخاصة حتى الآن، وقد تعاملت مع شريحة واسعة من الناس بكافة حالاتهم الاجتماعية وطبائعهم النفسية، وأغلب الشخصيات في أعمالي هي لأشخاص عرفتهم عن كثب تعاملت معهم، وخبرت آلامهم ومآسيهم، اعتبر نفسي شاهدة على عصري، فكتبت تلك الشهادة بكل أمانة، وأنا أقاوم السقوط في زمن الانهيارات والهزائم، مؤرخة للحظة على طريقتي ومن منظوري، مرتبطة بالواقع، يقلقني المجهول الآتي في وطني، ولكني مصرة على الثبات في موقعي
قدرية… أؤمن بنصيبي في هذه الحياة.
الحياة والحرب
-ترصد رواية “كمنديل في الريح” حالات اجتماعية متعددة تجسد معاناة المجتمع السوري تحديدا مدينة حلب جراء الحرب الإرهابية على سورية وما تسببت به من موت وآلام وحالات لجوء وغربة عن الوطن… هل نعتبرها سردية آسى وألم على وطن مزقته الحرب؟
كمنديل في الريح، هي حكاية الناس البسطاء العاديين الذين كانوا وقوداً لرجال السياسة في معاركهم على النفوذ، هي أولئك المستضعفين الذين يعيشون قرب أديم الأرض التي شهدت هزيمة المكان، والإنسان، والوطن والعقائد، كتابي هو صرخة يائسة من داخل هذا الكابوس، بوق استغاثة في الصحراء الكونية الشاملة، أطلقها من قاع محنتنا كي نزداد معرفة أننا عزَل ووحيدون عاجزون بلا أمل، أو مخرج، الأسلوب الذي اعتمده هو السرد الذي يخترق الحياة، يحاول أن يقترب منها، يقاربها في تجربة قاسية أنهكت الوطن على مدى عشر سنوات وأكثر كنا فيها شركاء في الألم، والموت كما كنا سابقاً شركاء في بساطة الحياة، فهذه البلاد كانت حلوة، وأصبحت ثكلى، نرى فيها صحوة الموت، وغفوة الحياة، تورطت في حبها، فهزمني وجعها المكبوت، وباتت في روحي وردة لا تموت، ودمعة لا تسقط، وكانت هذه الحرب المرآة الأكثر وضوحاً التي عكست التحولات التاريخية الكبرى في لحظة تساقط الأقنعة، واظهار الرغبات البشرية بأبشع صورها، وأكثرها عنفاً. كمنديل في الريح ……. مقاربة صادقة للحياة والحرب، ادانة للقبح والقسوة، وقسرية التحولات في زمن لن تنجو الوثائق فيه من التزوير.
– ما الرسالة التي أرادت الروائية إيصالها للقراء من روايتها كمنديل في الريح؟
ان الصراع داخل سورية تحول الى صراع بين الناس وعليهم، فالكل حزين وحيد مثل الليل، والباب المغلق هو بوابة قبر، وفكرة موتk ثمة من يضع عبوة ناسفة، من يسدد بندقية نحو رأس، من يقرر الموت كخيارk فكيف يمكن التأقلم مع حياة متوجة بالموت، أو بالفقد ، فهناك من فقد منزلاً، ومن فقد عزيزاً، ومن فقد عضواً في جسده ، وهناك من نزح الى ذل المنافي، أو هام في البلاد فاقداً المأوى، وفرصة العمل، ولقمة العيش، فالكل سقط في عجز، وذهول، وفقر ، والحرب على مدى سنوات أخرجت أسوأ ما في قلوبنا، ونفوسنا ، فكانت سنوات الفرز الكبرى، كشفت حقائق النفوس، وأظهرت العورات الفكرية، والنفسية، والأخلاقية التي كانت كامنة في مجتمعنا والتي عادت به عشرات السنين الى الوراء حيث لا ماء، لا كهرباء، لا أمن، لا أمان، ويصبح السؤال مشروعاً …… من أين؟ ومتى؟، وكيف؟، جاء كل هذا الوجع، والى متى سنتحمل كلَ هذه الخسارات المتوالية، والى متى سنظل نرزح تحت كل أشكال التطرف، والعنف الذي دفعنا ضريبته من ذواتنا المنهكة، وأوابدنا المدمرة، ومستقبل أولادنا الذي ضاع على دروب الهجرة، وفي قبور انتشرت في ساحات وحدائق مدينتنا.
موت مجاني
-تتبعت الروائية كحيل في سردها الروائي تتابع الحدث بشكل فني وبنيوي منذ مدخل الرواية الذي كان في جامعة حلب إلى تحولاتها في عناوين المقاطع التي ارتبطت ببعضها دون استطراد؟ فهل نعتبر هذا لونًا فنيًا جديدًا لرواية حديثة؟
الكتابة هي حالة روحية شديدة الحساسية، ترتقي بالكاتب الى نبش ما يؤلمه، ما فاق طاقته على التحمل ….. هي خلاص روحي، في الكتابة يسيطر الحدث والحكاية على تفكيري، أضع تصوراً عاماً لما سأكتب، ثم يبدأ بالتفاعل وانتاج أفكار وشخصيات ومسارات جديدة تقودني الى النهاية، فالألم الذي انتابني، وأنا أرى مأساة وطني الجريح وتغريبته هو الذي شكل هاجساً أولياً ، ودفعني لأمسك القلم ، وأكتب، وقد كتبت لأنقل شريحة حية من آلامنا للأجيال المقبلة لعلهم يستطيعون حماية وطن لم نستطع الحفاظ عليه لذلك لا أهتم بالتجنيس الأدبي قدر اهتمامي بتخليد كارثة ما نزال نشهد فصولها في أتون موت مجاني، أما عن العناوين التفصيلية فهي اشارات في مراحل الحدث توائم حركة الشخصيات ، وترسم مرحلة المأساة بين اندلاع الأحداث والنزوح واللجوء والموت. روايتي تشبه الزمن الذي نعيش فيه حيث حدث يسلمنا الى حدث، ومأساة تتلو أخرى في مدينة تبتلع أبناءها، وتهترئ بعاصفة جنون هي رفض لأولئك الذين جاؤوا من بعيد وجعلوا من سورية ساحة صراع لتصفية حسابات دولية واقليمية دمروا من خلالها حضارة تمتد جذورها لآلاف السنين.
أعتقد أن الرواية في سورية دخلت مرحلة جديدة من تاريخها بعد الزلزال فهو بحد ذاته بداية تاريخ جديد، فملايين الحكايات للاجئين، نازحين، مفقودين، شهداء تنتظر من يعيد نسجها وسردها، سمها ما شئت، فالكتابة لدي هاجس روح، والفكرة حرة الحركة والتشكيل في عصر جديد وتحولات كبرى أنتجتها صناعة الموت في وطن عربي كبير فشل في أن يكون صانعاً للحياة.
للوداع طقوس
-رصدت الكاتبة تحولات أبطال الرواية والآمال التي سكنتهم وتبدل أحاسيسهم الداخلية منذ بداية مأساة مدينة حلب وما ألم بها من تفجيرات وقذائف لتنتقل في مواقع متعددة تعكس هذا الألم كالمشافي وحارات حلب القديمة كشاهد على إرهاب همجي لتربط في النهاية أبطال روايتها بتلك الحارات وسط هدير من الذكريات الممتدة إلى ما لا نهاية.. أعود مجددًا وأطرح السؤال ما الفرق في هذه المواضيع مع أعمالك الأخرى” زمن الوحل والدم”. “للوداع طقوس”؟
كمنديل في الريح عن دار سوريانا للنشر 2018هي الرواية الأولى بعد مجموعتين قصصيتين، للوداع طقوس عن دار نون للنشر 2014، زمن الوحل والدم دار لبنان للنشر 2015، هل ثمة معنى أكثر الحاحاً من دراما الموت والحياة، فالكتابة تمتلئ فجوات أرواحنا، نتأمل تمزقنا فيها (كمنديل في الريح) هي شريحة حية نازفة لزمان عاث فينا فساداً، وتغريبة أطاحت بهناءة عيشنا
(زمن الوحل والدم) تدوينة لحريق بلد، وشهادة على القيامة في زمن بات الناس يتساءلون فيه، أين نتوارى في بلد مرتجف بالقذائف، بالفوضى، بالتآمر، بالعمالة، بالقصف العشوائي للناس الأبرياء، تفجير المؤسسات، مذلة العيش اليومي في ظل خوف متجدد، هي تجربة الايغال عميقاً في آلام الوطن الذي يجري اغتياله، ورفض كمية الوحل والدم الذي غمر أرواحنا
(للوداع طقوس) هي ملامسة لجراح المجتمع محاولة أولى للكتابة في أولى سنوات الحرب، منفذاً للهروب من واقع صعب بدأ يفرض ظلاله القاتمة، تجربة أولى، بوح فج، ولكنه كان ضرورياً، فالخطوات الأولى، وان كانت مرتبكة، فهي ضرورية لطريق الألف ميل. كتاباتي السابقة هي حجر الأساس للاحقة منها، والأولوية عندي دائماً لهذا الكم الهائل من الوجع الانساني الذي ينتابني، وكل المعاني التي تدور في فلكه.
جبران خليل جبران
-تنتمين إلى جيل أدباء برع في كتابة الرواية في سورية، فما السبب وراء هذا الشغف وهل تأثرت الدكتورة بهية بشخصية روائية أو أدبية بعينها؟
السبب وراء هذا الشغف هو هوسي في تتبع آثار الحرب في الحجر والبشر، وما تركته في النفوس من ندوب، فالأمكنة المهدمة أكثر نطقاً من أي خطاب، ولهذه البيوت التي تبدو فارغة ومهجورة قاطنون غادروها طوعاً، أو غصباً تاركين صوراً على الحيطان، وتذكارات في الزوايا، وربما بقي بعضهم تحت ركامها هذه الذكريات علينا أن نبقيها حية علنا نتوصل الى الاتعاظ ذات يوم يجب ألا تمحى ذاكرة الحرب من وجداننا، فهي وحدها ستقوي مناعتنا وتجعلنا نتوقف عند السؤال الأبدي ….. من نحن في هذه الساعة من الموت؟ ما جدوى وجودنا؟ وما فحواه؟
قرأت جبران خليل جبران قبل أن أعي تفاصيل الحياة، ومرارتها، عاشت عواصفه بين كتبي خلال مراحل دراستي، وحتى يومنا هذا سلمى كرامة رافقتني فترة طويلة، هيضت أجنحتي، وكانت أول ألم حقيقي سكن قلبي، أحببت ليل جبران حيث يسكب المحبون أـنفاسهم، وحيث فقدت أنفاسي، غربة جبران أفزعتني (( أنا غريب حتى تحطمني المنايا، وتحملني الى وطني )) لهذا أنا أخاف الغربة ، وأحاول أن أتمسك بوطني، يقول جبران ((عندما أصابت الرصاصة قلبي لم أمت، ولكنن مت عندما رأيت مطلقها)) وهذا ما كان ، فقد فوجئت من هول الشراسة، ومقدار الكره في سلوك أبناء الوطن تجاه بعضهم، أحببت جبران في كتابه رمل وزبد الذي دعا فيه الى المحبة والتسامح في علاقة الانسان بالإنسان، وما احوجنا الى ذلك الآن.
شاهد على المعاناة
-اختيار مواضيع رواياتك وبناء شخصياتها هل يتأثر بدراستك للطب؟
في كتاباتي كنت دقيقة كمبضع جراح في عرض تفاصيل الشخصيات، ومآسيهم (وقد تكون مهنتي ساعدتني في هذا) فأنا قريبة منهم دائماً بحكم عملي، شاهدة على معاناتهم، وكم بكيت مع بعضهم في مراكز الايواء أشعر أنني صنعت سجلاً انسانياً لمأساة مدينة تغتال على مرأى، ومسمع من العالم الذي أثبت أنه بعيد جداً عن المدنية التي يتغنى بها ، أثناء الحرب والنزوح تركت عيادتي بعد أن استولى عليها المسلحون، وعملت في مراكز إيواء (المدينة الجامعية ، والمبرة الإسلامية، ودير يسوع العامل ) فأصبحت الطبيبة في النهار هي ذاتها الكاتبة في الليل، كشفت عن حيواتهم الدقيقة، انفعالاتهم العظيمة ما اعتمل في نفوس الشخصيات تحت الشروط اللا إنسانية التي يعيشونها من ذل، وحصار، وموت عبر صبر بدأ يتنامى شيئاً فشيئاً، كنت عندما أفحص المريض أذهب أيضاً لفحص ًالطعنات الداخلية، وتلك الندوب العميقة في الأرواح المهزومة في حياة موسومة بالعنف، والفكر الظلامي الذي جاء به الارهابيون، فأنا رفيقة الفقراء والمظلومين، والمضطهدين، أسمع هسيس روحهم، أشعر أنني معنية بآلامهم ، بوجعهم الإنساني الذي يجب أن يوثق، ويترك للأجيال القادمة، فصور معاناتهم وصمة عار على جبين الإنسانية لهذا أكتب لهم بلغة يفهمونها ، لغة تشبه بقايا البؤس على وجوههم المتعبة.
أرواح ممزقة
-ألحظ تأثر كتاباتك إلى حد كبير بحالة التمزق التي تمر بها سورية خلال العقد الأخير فما تعليقك؟
هي حكاية أرواح تمزقت غربة وفقداً، حكاية مدينة ما زالت تسدل عيون أولادها، وتطويهم تحت جنحها في صفحات العدم. كنت شاهدة على الواقع ، أعرف أبطالي، أشعر بأحلامهم المحشورة داخل حقيبة تنأى بهم على طرق غريبة في لجة ضياع بين لجوء ونزوح لقد اخترت ألا أكون شاهدة محايدة ، أو مشاهدة زاهدة ، بل أردت أن أكون حارسة لذاكرة وطن محطم مفكك متهالك، كتبت لأكون شاهدة على العصر الكارثة، كتبت لأن الأحداث كشفت ما كان كامناً في نفوس وأفكار كل المحيطين بنا في المجتمع ، وظهرت حقيقتهم باتجاهات جديدة كنا نجهلها تماماً ، فالحرب ليست في أرضنا بل هي في أرواحنا، في ظلم أحاق بنا ، في جهل تمكن من عقليتنا انها الحرب تحفر خنادق عميقة في قلوبنا ،تأكلنا بشراهة كل يوم، تحصرنا في زوايا العيش الضيقة ، لهذا نجرب أن نركض كي نصل الى باب الحياة قبل أن تسبقنا الحرب اليه ، ففي النهاية الكتابة لم تكن سوى مراوغة لإلهاء الحرب عن وجهتها في وطن يترنح من قسوة الضربات على مرأى ومسمع العالم الذي لن يسلم من لعنة الأجيال القادمة فقد ترك لهم ارثاً قبيحاً من الحروب الدموية والانقسامات الفكرية خراباً وحرائق ودمار .
-في روايتك كمنديل في الريح هناك تصدير للرواية بـ: فلا اقحوانة وجدت قبرا تلوذ به، ولا قبر لملم حنايا الراحلين.. فماذا أردت أن تقولي؟
حزينة أنا لأولئك الشهداء الذين تركوا تحت ركام منازلهم، حزينة أنا لأولئك النبلاء الذين تشظت أجسادهم بقذائف الحقد، وأضحوا أثراً بعد عين، حزينة أنا للذين ابتلعتهم البحار وهي تنوء بأولئك التائهين العاجزين عن الصمت، فأهدتهم لشواطئ مجهولة احتفظت ببقاياهم، وحضنت شهقاتهم الأخيرة، فلا أقل من صرخة قبل الرحيل، قبل الانطفاء الأخير، القبور ترف لم يعد لنا، فطوبى للأقحوان الذي كان يحنو على مقابرنا، ويرثي موتانا.
دروب الرحيل
-في رواية كمنديل في الريح شخصية بشر وكذلك رجاء وآمال شخصيات تشبهنا جميعًا في انكسارها وأحزانها وخيباتها.. كيف يتم انتقاء شخصيات العمل لديك وهل لك طقوس خاصة في بناء مخطط المشروع الروائي قبل كتابته في صورته النهائية؟
-شخصياتي هم جزء من المجتمع الذي أعيش فيه، وكتابتي عنهم هي استمرار لحياتهم، لأحلامهم أبحث في عيونهم عن بذرة، ثم أتعهدها بالرعاية، وما أكثرها هذه الأيام، فلكل موقف قصة، ولكل صورة حكاية.
حاضرة أنا مع أبطالي، مشبعة بهم، بعضهم قابلته وخبرته عن قرب، أكتب لهم ومن أجلهم، فلدي مخزون انساني يقلقني، رؤى حزينة لواقع مؤلم، أحاول أن أجد متنفساً لهذا الألم، فكل ما كتبته كان جرحاً في صدري، آهة حرى، ذكرى غائبة حاضرة.
يؤلمني جداً طفل يبكي برداً وجوعاً، وأم تبتلع دموعها وهي تودع فلذة كبدها مرغمة على دروب الرحيل، على الغياب لتحميه من شر هذه الحرب وهي لا تدري ان كانت ستراه لاحقاً أم لا. لست أكاديمية، ولا دارسة أدب، لا أرتب، لا أرسم مخططاً لما أكتب بل هي فكرة تتلبسني، ثم تأتي الشخصيات والكلمات لتبوح بها، وتحاكي كل هذا القلق الذي يسكن أعماقي في زمن لا يشبه غيره من الأزمنة، ويجب أن تكون له كتابة لا يشبهها كل ما سبق.
وهج الكتابة
-هل محاولاتك الروائية حظيت بقبول واهتمام الأوساط الثقافية بسوريا وخارجها، أعني ندوات وقراءات نقدية وما الذي يؤثر على الإبداع الروائي للمرأة العربية في وجهة نظرك؟
المثقفون في بلدي …… منهم من هجع ودخل سباتاً شتوياً، منهم من هاجر وارتمى في أحضان القتلة، ومنهم من ظل هنا يقاوم الفناء بكلمة صادقة يحاول أن تكون في مستوى الحدث، فالكتابة لا وهج لها إن لم تكن في خضم هذا الجنون الهستيري، وهناك من أصابته الخيبة من الأفكار التي نادى بها والراية التي حملها، فاذا بها تنهار دفعة واحدة، فأصابه الذهول وصمت، أما عن بعض المثقفين الذين ابتلعهم الخوف فحدث ولا حرج، فالكلمة في هذه المعمعة قد تكون سيفاً تقتل صاحبها.
قامت الأوساط الثقافية في سورية ممثلة باتحاد الكتاب العرب بنشر أغلب نتاجي الأدبي في (مجلة الموقف الأدبي) (مجلة الشهباء الثقافية) (الاسبوع الأدبي) وقد أقام فرع اتحاد الكتاب العرب في حلب ندوة وقراءة لروايتي (كمنديل في الريح)
كما قام الباحث والأديب الكبير الأستاذ (محمد جمعة حمادة) صاحب ثمانية عشر مؤلفاً في الأدب والسيرة الذاتية منها (رياح دموية للذاكرة – الذاكرة والرؤى – ذاكرة المكان / مكان الذاكرة. جنوب الجنوب وغيرها)، بدراسة بعنوان ( بورتريه لم يكتمل ) صادرة عن دار سوريانا للنشر 2018 تناول فيها تجربتي الأدبية ابتداءً من (للوداع طقوس) مروراً ب(زمن الوحل والدم) وصولاً الى (كمنديل في الريح) وكان رفيقاً وأميناً في تناول خطواتي في عالم الأدب والحياة ، داعماً تلك الخطوات، وعراباً لها ، كما شاركت مع عدد من أدباء حلب بكتاب ( من أبراج قلعة حلب ) الصادر عن اتحاد الكتاب العرب _ دمشق2022 وهو عبارة عن قصص من وحي الحرب على سورية، كما قامت وكالة الأنباء السورية ( سانا ) ، الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، اتحاد الكتاب العرب، مديرية الثقافة بحلب ، موقع ديوان العرب، موقع نيل وفرات بنشر قراءة وتعريف عن رواية كمنديل في الريح.
تصنيف لا داعي منه
-يصنف البعض الأدب إلى نسائي ورجالي .. ما رأيك في هذا التصنيف؟
قيل …… في داخل كل امرأة رجل، وفي داخل كل رجل امرأة، فالمرأة دائماً تسعى الى امرأة داخل الرجل لكنها لا تراها، بينما الرجل يقمع غالباً المرأة التي في داخله، ولهذا و برأيي الشخصي لا داعي لتصنيف من هذا النوع، وعلى الرجل ألا يقمع المرأة التي بداخله لأنه يخسر الكثير، ويفوت على نفسه الكثير من الألق، والمشاعر الرهيفة في عالم قتل فيه الاحساس والشعور قبل أن تقتل الأجساد بقسوة لا مثيل لها، فالكتابة هي الكتابة سواء كانت من منظور رجل، أو امرأة، رغم أنه أحياناً تكون الكاتبة الأنثى أقدر على الغوص في التفاصيل الصغيرة، والمنمنمات الناعمة تطرز بها عملها الأدبي بتؤدة وصبر، اذاً ليس للكتابة جنس، بل هو أدب فحسب جيد أو سيء، فالهم العام كبير واستثنائي، والحرب دخلت في سورية منعطفاً تاريخياً، وأنتجت نصاً روائياً هجيناً هو مزيج من التوثيق والتخييل.
-ماذا لديك من جديد ينتظره القارئ في مجال الكتابات الإبداعية سواء قصص أو روايات؟
أعمل حالياً على رواية جديدة هي في المراحل الأخيرة من كتابتها ومراجعتها، روايتي القادمة (نحو الشمال) ابنة هذا الزمن، ابنة تلك المأساة، فهناك دائماً ما يجب أن يقال ما دام هناك ما يثير غضباً وقلقاً، ما دام هناك شعوراً قوياً ونابضاً بالانتماء تجاه الوطن، فصوت الضمير سيجد نفسه تلقائياً في سياق الكتابة عن هذه القضية التي فرضت نفسها، فالكتابة ……. هي صوت الحزن على بلدي الذي يسير نحو الهاوية، وصوت الحنين الى ذلك الزمن الجميل الذي كان طافحاً بالبشر.