جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
“لقد انتزعت الثقة، ثم ماتت، ثم دفنت. إنهم كذابون .. كذابون .. كذابون .. ويعلمون أنهم كذابون. ويعلمون أننا نعلم أنهم كذابون، ومع ذلك فهم يكذبون بأعلى صوت، ويتصدرون القافلة”.
أتذكر دائمًا تلك المقولة التي جاءت على لسان “علي عبد الستار”، بطل قصة “الحب فوق هضبة الهرم”، للراحل الكبير الأستاذ نجيب محفوظ، كلما شاهدت أو تابعت الإطلالات التلفزيونية أو الصحفية التي يقوم بها بعض رجال السياسة والنخبة والإعلام والفكر والتنوير وتجديد الخطاب الديني في بلادنا، وما يُثيرونه من قضايا وآراء تأتي كما يدعون بدافع الفهم والاطلاع على بواطن الأمور، وبدافع الوطنية والواقعية والعقلانية.
ولهذا أصبحت على قناعة تامة بأننا نحتاج اليوم لاستخدام أدوات الجرح والتعديل وعلم الرجال التي وضعها المُشتغلون بـ “علم الحديث”؛ لكي نُقيم المتصدرين للمشهد الإعلامي والثقافي والسياسي في مصر.
ولكي نعرف من الذي يتحدث أو يكتب؟
وهل هو بما يحمله من مقومات علمية وسمات إنسانية وتاريخ شخصي ومهني ممن يُستمع لهم ويؤخذ عنهم؟
أم أنه صاحب هوى ومصلحة شخصية، وفاقد للأهلية والجدارة في كل أو بعض مقوماتها، ولا ينبغي علينا أن نسمع له أو نهتم بما يقوله أو نجعله موضوعًا للمناقشة؟
ثم ننتقل بعد تقييم المُتحدث ذاته، لتقييم ما يقوله في ضوء مفهوم “جغرافية الكلمة” الذي تحدث عنه المفكر الإيراني الراحل الدكتور “علي شريعتي” في كتابه المهم “العودة إلى الذات” الذي ترجمه إلى اللغة العربية الراحل الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا.
وهو يقصد بمفهوم “جغرافية الكلمة” ضرورة دراسة علاقة الأفكار والآراء والقضايا المطروحة للنقاش في مرحلة معينة من تاريخ الأوطان والمجتمعات بسياقها التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي نشأت فيه أولًا، ثم دراسة وتحديد علاقتها بالعصر والمجتمع التي تُطرح فيهما. ثانيًا؛ “لأنه أحيانًا تكون قضية ما صحيحة في حد ذاتها ومنطقية ومعقولة وذات قيمة، لكن طرحها في أرضية معينة وزمان معين، يُمكن أن يُعد مرضًا وانحرافًا، وفسادًا وكارثة”.
والراحل الدكتور “علي شريعتي” يلفت الانتباه هنا لقضية جوهرية في مشروع أي سياسي أو مفكر أو كاتب أو إعلامي صادق مع ذاته ومجتمعه، ومُدرك لروح عصره وتحدياته ومشكلاته، وهي قضية “فقه الواقع والأولويات”
وهي القضية التي يؤدي تجاهلها عن عمد أو عن جهل إلى تبديد فكر وجهد وعمر الإنسان والمجتمع والدول بلا طائل، في قضايا وآراء ومناقشات زائفة، تصرف الأنظار عن قضايا وآراء ومناقشات أخرى أكثر أولوية وأهمية وتمس واقع ومشكلات المجتمع والدولة في اللحظة الراهنة.
وبناء على ذلك، يتحتم علينا اليوم ونحن نمر بهذه المرحلة المهمة من تاريخ بلادنا، وهي مرحلة مُتخمة بالمشكلات والتحديات والمخاطر، أن ننتبه جيدًا لتقييم التاريخ الشخصي والمهني لكل مَن يتصدر المشهد العام في ضوء أدوات الجرح والتعديل وعلم الرجال لنعرف هل نأخذ منه أم نتجاهله تماماً؟
ثم تقييم ما يطرحه علينا هؤلاء من آراء وأفكار في ضوء مفهوم “جغرافية الكلمة”، لنعرف هل جاءت في سياقها الصحيح، بحيث تعمق الوعي الفكري والديني والسياسي والتاريخي والوطني البناء، وتُساهم في حل مشكلات الواقع والمجتمع؟ أم هي آراء وأفكار زائفة، تُطرح عن قصد أو جهل في غير زمانها ومكانها، وتؤدي إلى تغيب الوعي وتجهيل المجتمع وتفاقم مشكلاته؟