سبعة عشر عاماً مضت على انتهاء الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، التي تعرف لدى اللبنانيين باسم “حرب تموز”، بينما يطلق عليها الإسرائيليون اسم “حرب لبنان الثانية”، وهي التي بدأت يوم 12 تموز من العام 2006، بعد نجاح مقاتلي حزب الله في استهداف دورية إسرائيلية، وقتل أربعة من جنودها وأسر اثنين آخرين، أستخدما فيما بعد في إجراء واحدة من أهم صفقات تبادل الأسرى بين المقاومة والعدو، وانتهت الحرب يوم 14 آب/أغسطس بفشلٍ إسرائيليٍ مريع، بعد أربعة وثلاثين يوماً من الحرب الضارية دمر خلالها العدو قطاعاتٍ واسعة من المؤسسات المدنية والبنى التحتية اللبنانية، إلا أن دماره الشديد لم يجلب له نصراً، ولم يحقق له فوزاً، ولم يمنع المقاومة من تلقينه درساً قاسياً موجعاً ما زال إلى اليوم يتجرع مرارته ويشكو من نتائجه.
لم تتمكن حملة “الثواب العادل” الإسرائيلية من الرد على عملية “الوعد الصادق” اللبنانية، وعجزت عن تحقيق الأهداف التي انطلقت لأجلها وأعلن عنها قادتها، ونال الإسرائيليون المعتدون ثوابهم العادل واستحقوا من المقاومة الجزاء الأوفى على عدوانهم، إذ باء عدوانهم بالفشل، ومنوا بخسائر مادية وبشرية ومعنوية كبيرة، شهدت عليها بلدة مارون الراس التي أوجعتهم وأدمتهم، وتركت إلى جانب غيرها من المناطق اللبنانية جرحاً غائراً في الذاكرة الإسرائيلية، وحالات اكتئابٍ وهلعٍ وصدماتٍ نفسية ،حملها معهم إلى جانب الجرحى جنودُهم العائدون إلى المستشفيات والمصحات والعيادات النفسية.
صدمُ الإسرائيليون قبل سبعة عشر عاماً بقدرات المقاومة الإسلامية، وذهلوا لجرأتها وتفوقها وإقدامها واقتحامها وصمودها وثباتها، وهالتهم مفاجأتها وإبداعاتها وقدرتها على السيطرة والتحكم، والإدارة والتنسيق والمواجهة، وانهارت جبهتها الداخلية أمام كاميرا المقاومة، التي فضحتهم وصدمتهم، وكشفت حقيقة جيشهم وحالة جنودهم، وأظهرت عجزهم وضعفهم، ونجحت مصداقيتها التي قصفت البارجة الحربية “ساعر” على الهواء مباشرة في تأكيد روايتها، وتكذيب رواية جيش العدو وحكومته، ورفض تصريحات الجيش وقيادته، الذي وقف مذهولاً أمام احتراق البارجة ساعر وتدمير دبابة الميركافاة، أسطورة السلاح البري ومفخرتهم.
لعل العدو الإسرائيلي أدرك يقيناً، بعد أن رأى وعرف، وذاق وتجرع، ولمس وأدرك، قدرة المقاومة الإسلامية وإمكانياتها، أن حربه الثانية على لبنان هي الحرب الأخيرة، ولن يتمكن بعدها من خوض غمار حربٍ جديدةٍ ضدها، يغامر فيها بأمنه وسلامته، وسمعته وصورته، ويعرض مستقبله للخطر ووجوده للزوال، فقد تشوه جيشهم، واضطرب شعبهم، وتصدعت جبهتهم، واهتزت مكانة رئيس حكومتهم، وسقط وزير حربهم، وفضح رئيس أركان جيشهم، وتوالت خسائرهم وتواصلت جراحهم، حيث كوت الحرب وعيهم وأرعبتهم، وأعيت جيشهم وصدمت جنودهم، وأسقطت حكومتهم وكشفت عورتهم، وعلمتهم بالدم والنار أن تكرار التجربة مؤلم، ونتائج المغامرة قاسية، والحرب الجديدة موجعة إن لم تكن خاتمة.
كان ذلك الوعي الإسرائيلي قبل سبعة عشر عاماً، عندما كانت المقاومة الإسلامية تطلق في اليوم الواحد 130-150 صاروخاً، ولا تستطيع تعويض النقص بسهولة، وكانت صورايخها متوسطة المدى، وتشكو من دقة الإصابة ومحدودية الأثر، وتجد صعوبةً في نقلها وتلقيم منصاتها وتحديث إحداثياتها.
وعندما كانت تعاني من التفوق الجوي والتقني الإسرائيلي، وتتأذى من كثافة القصف والنيران من البر والبحر، الذي أحدث دماراً وخراباً في المباني والمناطق السكنية، وتسبب جنوباً في حالة نزوحٍ واسعةٍ، وألحق دماراً واسعاً في الضاحية الجنوبية لبيروت، وعطل مرافق الحياة العامة في البلاد، وطال القصف العنيف المطار ومحطات توليد الكهرباء والجسور والمقار والمستودعات وغيرها.
وكان ذلك عندما كانت تشكو من القتال وحدها وانشغال الجبهات عنها واستفراد العدو بها، وعندما كانت تفتقر إلى الغطاء الجوي، وعدم القدرة على القتال خلف خطوط النار، وتعاني من صعوبة انتقال مقاتليها وحركتهم نتيجة قصف الشوارع والطرقات، واستهداف الممرات البديلة والطارئة، واستخدام المسيرات وطائرات الاستطلاع في الرصد والمتابعة، وغير ذلك من العقبات والتحديات التي انتصرت عليها المقاومة في حينها، وتجاوزتها رغم غزارة نيران العدو ووحشية قصفه والحصار والتآمر العربي والدولي.
إذا كان ذاك حال العدو مع المقاومة قبل سبعة عشر عاماً، فكيف سيكون حاله اليوم بعد هذه السنوات المجيدة من الإعداد والمراكمة والتطوير والتجهيز، وبعد النجاحات العديدة لقوى المقاومة عموماً والإخفاقات المتكررة للعدو وجيشه، فالمقاومة اليوم مختلفة ولا تشبه تلك التي تعاركت العدو وعركته، ولا تلك التي قاتلته وهزمته، فهي اليوم أقدر وأقوى، وأكثر خبرةً وأشد مراساً، وباتت صواريخها دقيقة الإصابة وبعيدة المدى وشديدة الأثر، وأصبحت أكثر عدداً وأشد فتكاً، وأهدافها محددة وآليات إطلاقها جاهزة، وقدرتها على الإصابة الدقيقة أكيدة، وأعدادها اليومية بالآلاف، وهي كفيلة بتعطيل كل المنظومات الصاروخية المضادة وإرباكها وتعطيل عملها، وإصابة جميع الأهداف الإسرائيلية المحددة، البعيدة والقريبة، المدنية والعسكرية، والعمرانية والصناعية، وغيرها وأكثر بالقدر الذي يوسع في العدو أهدافه.
إن المقاومة الإسلامية التي أسقطت قبل سبعةَ عشر عاماً هيبة دبابة الميركافاة، وشطبت اسمها من أسواق السلاح الدولية، وتسببت في كسادها ورفض شرائها، والتي كسرت ذراع العدو البحرية ودمرت مفخرته الحربية، والتي أبكت جنوده وأدمت قادته، وأسقطت حكومته وتسببت في محاسبة وعقاب كبار ضباطه، قادرة اليوم بما تمتلك من صواريخ ومسيرات وقذائف موجهة، وقدرة عالية على اختراق منظومات السايبر وتعطيل البرامج الالكترونية، فضلاً عن قيادتها ومقاتليها، وحاضنتها وبيئتها، وتضامن الساحات ووحدة الجبهات، على تحقيق نصرٍ جديدٍ من نوعٍ آخر، نصر يتوج بتحرير شمال فلسطين وتطهيره من رجس المستوطنين، وعودة أهله إليه فاتحين منتصرين، ولعلهم قد أعدوا العدة لهذا اليوم وتهيأوا له، وإنهم ليرونه أقرب إليهم من أي وقتٍ مضى.