جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
كنت أظن أنني تحصنت تمامًا من وجع الغياب والفقد، وتعودت على حضور الموت في حياة البشر بصفة عامة، وحياتي الشخصية بصفة خاصة، وأصبح لسان حالي بعد رحيل الوالد منذ أكثر من عام قول حسان بن ثابت:
كُنتَ السَوادَ لِناظِري
فَعَمي عَلَيكَ الناظِرُ
مَن شاءَ بَعدَكَ فَليَمُت
فَعَلَيكَ كُنتُ أُحاذِرُ.
لكني كنت واهمًا، وأظن بنفسي نضجًا وواقعية في مواجهة الموت وتقبل ثقل حضوره بعد أن تلقيت ظهر يوم الخميس الماضي الموافق 17 أغسطس الجاري، خبر رحيل أستاذنا الدكتور أحمد محمود الجزار، أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف بكلية الآداب جامعة المنيا، والعميد الأسبق للكلية.
وهو الخبر الذي جعلني أشعر بأني اختبر صدمة حضور الموت في حياتي للمرة الأولى، وما يصحب تلك الصدمة من مشاعر الانكار والعجز عن تصور حدوث ذلك بالفعل؛ لأننا ومنذ كنا أطفالاً وشباباً صغاراً لا نتصور فكرة رحيل الآباء، ويصعب علينا تقبلها والتعايش معها.
والراحل الدكتور أحمد الجزار كان بكل معاني الكلمة أستاذي وأبي الروحي وصديقي وموضع الثقة والاستشارة الصادقة منذ تعرفت عليه لأول مرة، عندما كنت طالباً بالفرقة الأولى بقسم الفلسفة كلية الآداب جامعة المنيا، وحتى رحيله.
ولهذا وجدت نفسي طوال الطريق من القاهرة لمحافظة المنيا للمشاركة في تشييع جثمانه الطاهر، أستعيد ذكرياتي معه، وأحاول تأمل مسيرته الإنسانية والعلمية منذ أن تخرج بتفوق من قسم الفلسفة جامعة القاهرة في بداية سبعينيات القرن الماضي، ليُعين معيدًا بكلية الآداب جامعة أسيوط فرع المنيا، ليترك الجامعة بعد ذلك لتأدية الخدمة العسكرية طوال ست سنوات قضاها على الجبهة وشارك فيها بحرب أكتوبر المجيدة.
ليعود بعد الحرب – وهو ابن محافظة الدقهلية – للاستقرار في محافظة المنيا، واستكمال مسيرته العلمية المُشرفة بالجامعة، وليتزوج هناك من سيدة فاضلة – رحمة الله عليها – من بيت طيب من بيوت المنيا.
ليُدفن في نهاية مسيرته ورحلة كفاحه وتميزه في أرض المنيا بجوار زوجته العزيزة التي وفرت له دائماً كل سبل الراحة والتفرغ لأبحاثه ودراساته ومهامه الجامعية، وأعطت له من الأبناء ولدين وبنت، أحسنا معاً تربيتهم، وكانوا دائمًا قرة عينه، وموضع اعتزازه وفخره، وشعوره بالرضا التام عن مسيرته كأب وأستاذ جامعي.
وإذا حاولت هنا أن أبحث عن مفتاح شخصية الراحل الدكتور أحمد الجزار، وهو المفتاح الذي صنع جوانب تميزه الإنساني والعلمي، وجعله موضع محبة كل من اقترب منه وتعامل معه، فلن أجد إلا مفتاح “الأناقة” بكل تجلياتها النفسية والإنسانية والفكرية.
نعم، كان طوال حياته أنيقاً في ثيابه ومظهر الخارجي.
أنيقًا في ذوقه وفي حركاته سواء فى المشي أو الجلوس.
أنيقاً في طريقة كلامه ونظرته وابتسامته ونبرة صوته في كلامه وحواره ومحاضراته.
أنيقًا في اختيار عنوان أبحاثه ودراساته في الفلسفة الإسلامية والتصوف، وأنيقًا في أسلوبه ولغته.
وقبل كل ذلك كان يتمتع بأناقة نفسية مُذهلة، نبعت وتشكلت من ثقته بنفسه، وإحساسه بالجدارة والاستحقاق، ومن امتلاكه لمجموعة من السمات والمهارات والخبرات الحياتية التي مكنته من التعامل بهدوء مع كل الظروف والمشكلات والتحديات في حياته الخاصة والعامة، وجعلته قادرًا على كسب قلوب الناس، ومنح طاقة ايجابية لكل من يتعامل معه.
وأخيرًا كان أنيقاً في لحظة رحيله فلم يُرهق أحدأً، أنيقًا بجسده النحيل في حياته وموته، وخفيفًا في تجهيزه وحمله والصلاة عليه ودفنه.
رحم الله أستاذنا الدكتور أحمد الجزار الذي جسد بالنسبة لنا صورة الأستاذ الجامعي كما ينبغي أن يكون، وكان نَعم المثل الأعلى والقدوة إنسانيًا وأكاديمياً.
رحم الله أستاذنا الدكتور أحمد الجزار، الذي ستظل صورته في قلوبنا قبل عيوننا لا تشيخ ولا تكبر؛ فاسمه سوف يعود بنا بمجرد استحضاره لأحلى سنوات العمر، ولزمن فتوة أرواحنا وأحلامنا، ولزمن فتوة صورته وحضوره ودوره؛ فنحن كنا معه دائمًا لا نكبر، وهو معنا كان دائمًا ذلك الشاب الممتلئ بالمعرفة والحياة والحب للجميع.