كتب د. أحمد يوسف:
لقد التقيت في حياتي أكثر من 18 رئيس دولة عربية وإسلامية في مناسبات مختلفة، واستمعت لبعضهم عن قرب، ولم يُثر إعجابي الكثير منهم، لكنَّ الملك حسين (رحمه الله) كان فيه جانبٌ ميَّزه عن الآخرين، وهو تواضعه وحكمته والطابع الإنساني في تعامله مع الناس.
في الحقيقة كان هناك أكثر من موقفٍ لمست فيه تجليات هذه الأبعاد في شخصية الملك، ولعلي أستهل ذلك بذكر مشهدين عشتهما بنفسي، وآخر تابعته عن قرب.
في عام 1994 كان الملك حسين في زيارة لواشنطن، ووجهت السفارة دعوة لعدد من قيادات الجالية للقاء به.. دخلت أنا وصديقي عاطف دلقموني إلى فندق (Four Seasons) الذي نزل فيه الملك، حيث سبقنا إلى هناك شخصيات من وجوه الجالية الأردنية والعربية.. دخل جلالته إلى قاعة اللقاء مبتسماً وحيَّا الجميع بيديه، وألقى كلمة ترحيبية شكر فيها الحضور بلغة تنم عن أدبٍ عالٍ وخُلق كريم، ثم تكلم حوالي عشرين دقيقة في أحوال السياسة والقضية الفلسطينية، باعتبارها قضية الأردن الأولى؛ ملكاً وحكومة وشعباً.
قيل المغادرة، كان هناك ترتيب أن يمر الجميع للتسليم على الملك.. اصطف ضيوف اللقاء من الوجهاء والشخصيات الاعتبارية، وبدأوا بالتحرك للسلام على الملك وعائلته.
كنت أراقب المشهد عن قرب، وكان في ذهني فكرة أحاول أن أجد لها تخريجة ًمناسبة.. كان البرتوكول يقضي أن يمدَّ الضيف يده بالسلام ثم ينصرف، مُفسحاً المكان لمن هو خلفه.
قبل ذهابنا إلى لقاء الملك، حدثني الصديق عاطف عن جملة من المواقف الإنسانية المعروفة عن الملك، والتي تعكس طيبته وتواضعه وسهره ومتابعته لأحوال شعبه. وقد ذكر لي بهذا الخصوص قصة حصلت معه شخصياً عندما التقى الملك في واشنطن مع د. كامل الشريف في صيف 1993، قائلاً: لن أنسَ ذلك اللقاء ما حييت، فقد كان لمشهد التواضع الذي كان عليه الملك وإنسانيته، وسؤاله عن والدي المريض والاعتمام بعلاجه وقع عظيم في نفسي.
قاصدين جلالتك.. وصلت!!
بينما كان صف من تقدموا للسلام يقترب أكثر فأكثر من المنصة التي يقف عليها الملك وعائلته، همست في أذن صديقي عاطف قائلاً: ما رأيك أن نطرح على الملك قضية أخينا “معين”؛ المعتقل لدى الأجهزة الأمنية في عمان؟ هزَّ رأسه إشارة على الموافقة. فالأخ معين هو أحد الشباب الفلسطينيين الدارسين في أمريكا والمتعاطفين مع حركة حماس، وقد ذهب لزيارة أهله في الأردن، وتمَّ اعتقاله والتحقيق معه هناك، وقد سمعنا أنه قد تعرَّض لعذاب الهون في المعتقل، ولا أحد يعرف ماذا ينتظره بعد التحقيق.
وبناءً على تلك المخاوف على حياته، عقدتُ العزم على عرض قضيته على الملك، إلا أنَّ التحدي كان هو الوقت، فأمامي فقط بضعُ ثوانٍ معدودة.
أخذت قراراً أن أكون آخر من يُسلِّم على الملك؛ لعل ذلك يمنحني ثوانٍ إضافية.. كان عقلي مشغولاً في كيفية تقديم الرواية، وماذا يمكن أن أقول لكسب تعاطف الملك مع القضية.. فوضت أمري إلى الله، وتركتها لعفو الخاطر واجتهاد اللحظة.
ظلت الكلمات تأتي وتروح على لساني، وأنا أحسب الوقت بالثواني. اقترب دوري وأنا آخر واحد في الصف، وعليه سأكون بذلك آخر من يصافح الملك في هذا اللقاء.
فجأة، وجدت نفسي أمام الملك وجهاً لوجه، كنت رابط الجأش، فهذه ليست المرة الأولى التي ألتقي فيها زعيماً أو رئيس دولة بهذا الوزن، انحنيت عليه، ووضعت يدي على كتفه، ثم همست في أذنه بكلمات سريعة: جلالة الملك نحن هنا في الجالية الفلسطينية نكنُّ لك كل التقدير والاحترام، ولنا صديق من جاليتنا تمَّ اعتقاله منذ شهر في عمان، ونحن نطمع بكرمك في سرعة الإفراج عنه.. سألني الملك: ما اسمه؟ قلت: معين… ونسيت اسم العائلة. قدَّر الملك ذلك، وقال لأحد المرافقين: خذ اسمه وعنوانه للتواصل معه.. فعلاً؛ انتحينا في ركن من القاعة، حيث قدَّمت له كرت التعريف بشخصي، وعليه اسمي وعنواني وعملي واسم الأخ “معين” كاملاً، وعدنا للقاعة، حيث كانت القهوة والحلوى الأردنية بانتظارنا.
بعد انتهاء مراسم اللقاء غادرنا الفندق، وفي الطريق كان السؤال الحائر على لساني: تُرى هل يلتفت الملك لتلك المسألة؟ فقال عاطف بثقة وهو يبتسم: ابشر يا أخ أحمد.. إن من يصل إلى الملك لا يُردُّ له طلبٌ، ودعنا ننتظر لنرى ماذا سيحدث خلال الأيام القادمة. مرت ثلاثة أيام بعد ذلك اللقاء، وإذا بالأخبار تصل من عمان بأن الأخ “معين” قد جرى إطلاق سراحه.
كانت فرحتنا غامرة، وفعلاً أحسست بأننا أنجزنا شيئاً عظيماً من وراء هذا اللقاء، الذي كان صاحبي هو صاحب الفضل فيه.
د. موسى أبو مرزوق في قصر رغدان!!
المشهد الثاني كان خلال فترة اعتقال د. موسى أبو مرزوق في أمريكا، وكنَّا نحاول الوصول للملك كلجنة دفاع عنه، لمناشدته التوسط لإطلاق سراحه، كونه تجمعه بالإدارة الأمريكية والرئيس كلنتون علاقات صداقة وطيدة.
كان د. فايز الطراونة؛ سفير الأردن في العاصمة واشنطن، وهو الجهة التي كنا نتواصل معها، وكان الرجل مهتماً ومتفاعلاً معنا، وقد وعد الأخت نادية العشي؛ زوجة د. أبو مرزوق، أن يُسهل لها اللقاء بالملك إن سمحت الظروف الصحية بذلك، حيث كان الملك –آنذاك– متواجداً في أمريكا للعلاج.
أرسلت لجنة الدفاع عن د. أبو مرزوق “بوكيه ورد” باسم الأخت نادية، تتمنى فيه للملك الشفاء والصحة والعافية، وتعرب عن رغبتها في اللقاء به. جاء الجواب عبر سعادة السفير الطراونة بأن الرسالة وصلت، وأن جلالته يتابع الملف، وأنه سيلتقيها عندما تتحسن حالته الصحية.
بعد تراجع نتانياهو عن طلب تسليم د. أبو مرزوق لإسرائيل، لم يعد هناك ما يبرر استمرار اعتقاله، وتحولت القضية إلى دائرة الهجرة والجنسية، حيث تمَّ الاتفاق معه على إطلاق سراحه مقابل التنازل عن بطاقة الإقامة الدائمة، وعدم العودة لأمريكا.
تمَّ ترحيل د. أبو مرزوق إلى الأردن في مايو 1997، حيث لحقت به عائلته إلى هناك. وفي الأردن، تلقى د. أبو مرزوق دعوة للقاء الملك هو وزوجته في قصر رغدان.. ذهبا ومعهما طفلتهما “رُبا”، وكان بصحبتهما أيضاً النائب بسام العموش، وهناك كان الملك حسين وأخيه سمو الأمير حسن، ورئيس المخابرات الأردنية اللواء سميح البطيخي. صافح الملك د. أبو مرزوق، وحيَّ زوجته، وانحنى مداعباً الطفلة “رُبا” ببعض الكلمات.. وبعد انتهاء اللقاء، غادر د. أبو مرزوق وعائلته القصر مع ترحيب الملك له بالإقامة في الأردن إلى متى شاء. كان ذلك اللقاء هو لفتة وفاءٍ كريمة من الملك، وكأنه كان يقول للأخت نادية: هذا ما وعدناكم به في واشنطن.
إن المشهد الآخر الذي لا يغيب من ذاكرتنا كفلسطينيين هو ذلك الموقف القوي للملك حسين، بعد محاولة الموساد الفاشلة لاغتيال الأستاذ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي عام 1997.. حيث اتصل الملك بالرئيس كلينتون، وطلب منه المساعدة في توفير العلاج لمشعل، قائلاً له: إذا توفي مشعل فستحلّ كارثة على الأردن. توجّه كلينتون شخصياً بالطلب من إسرائيل بتقديم تفاصيل دقيقة عن السُمِّ الذي استخدم في محاولة قتل مشعل.. قالت القناة الأولى للتلفزيون الإسرائيلي إنَّ نتانياهو أرسل طبيبة خاصة إلى عمَّان ومعها “الترياق”، مما مكّن من إنقاذ حياة مشعل، وتشافيه تماماً.
كان الملك غاضباً من تلك الوقاحة الإسرائيلية والجرأة على إهانة الأردن، وكان موقفه قوياً في انتقاد نتانياهو، وجاءت رسالته له تحمل الكثير من التهديد والوعيد.
وفي سياق استرضاء الملك حسين، قامت إسرائيل بإطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين، وتمَّ توفير العلاج له في الأردن، وجاء الملك شخصياً لعيادته في المستشفى للاطمئنان على سلامته، وتقديم كلّ ما يلزم خلال فترة إقامته في الأردن.
حكيم العرب..
رحم الله الملك حسين فقد كان من أعمدة الحكمة في هذه الأمة، حتى وإن كانت هناك وجهات نظر متباينة في بعض السياسات والمواقف.. وعندما نقارن الملك حسين بالآخرين من الحكَّام والملوك العرب، فسنجد أنه كان يتمتع ببعد نظر وحكمة بالغة في السياسة، وأنه كان إنساناً صاحب كاريزما ومواقف، جعلته محبوباً من جميع أبناء شعبه. رحم الله الملك حسين، وتقبله في الصالحين من عباده.