لا تزال الحياة المصرية القديمة تضم بين جنباتها أسرارًا يتوق الكثيرون لاكتشافها والتعرف على خبايا تفاصيلها، ومن بين هذه الأسرار استطاع العلماء اكتشاف ما يطلق عليه «رائحة الخلود» في تلك الحياة من خلال أوانٍ كانوبية مأخوذة من مقبرة مصرية قديمة لنبيلة تُدعى «سينيتناي»، وهي مرضعة الفرعون أمنحتب الثاني، والتي يعتقد أنها ماتت منذ حوالي 3500 عام.
السائل يحتوي مزيج معقد من المكونات
وبحسب صحيفة «ذا جارديان» البريطانية، تمكن العلماء من التعرف إلى مكونات هذا السائل الذي يعرف بـ«عطر الخلود» أو «عطر الحياة الأبدية»، إذ يحتوي على مزيج معقد من المكونات، بما في ذلك الدهون والزيوت، وشمع العسل، والقار، والراتنجات من أشجار عائلة الصنوبر، ومادة تسمى الكومارين لها رائحة تشبه الفانيليا، وحمض البنزويك، الذي يمكن العثور عليه في العديد من المصادر النباتية بما في ذلك القرفة والقرنفل.
وبحسب الدكتور بسام الشماع، المؤرخ والمحاضر الدولي، فإنّ استنساخ العطور والأصماغ والمواد المستخدمة لا تظهر أهميتها فقط في مجرد التحنيط، ولكن تكمن أهميتها إذا صحت هذه المواد المستخدمة في إثبات فصل من فصول تاريخنا التي تعطي عمقًا وتقديرًا وتبجيلًا لحضارتنا المصرية القديمة.
الدكتور بسام الشمّاع يقول في تصريحات خاصة لـ«» إنّ هناك بعض المواد المذكورة التي دخلت في مكونات العطر لم تكن موجودة في مصر القديمة، ليكون الحل الوحيد في وجود هذه العناصر على الراتنجات ولفائف الممياوات أن يكون المصري القديم قد استوردها من الخارج وهذا يُعيد كتابة التاريخ، ويوثق ابتكار المصري القديم لفكرة الاستيراد والتصدير.
المصري القديم كان يجوب ويعبر أعالي البحار
هذه الرائحة بالمكونات المذكورة التي اكتشفها العلماء أيضًا، توثق فكرة الرحلات التجارية في الحضارة المصرية القديمة التي تثبت أنّ المصري القديم كان يجوب وينخر أعالي البحار بحسب «الشماع»، فضلًا عن امتلاكه أسطولا تجاريا يتعامل من خلاله مع السفن بواسطة بعض المختصين والتعامل مع تغيرات الرياح وطبيعة البحر سواء الأحمر أو المتوسط.
ويوضح «الشمّاع» أنّ الرحلات التجارية الأرضية، أثبتت بوجود اسم الملك رمسيس الثالث في محافظة تبوك بشبه الجزيرة العربية، وأنّ عهد الملك رمسيس الثالث شهد رحلات وقوافل تجارية خرجت من مصر إلى شبه جزيرة سيناء ومنها إلى شبه الجزيرة العربية، وقامت القوافل المصرية هناك بنحت اسم الملك رمسيس الثالث على صخر التل الخاص بواحة «تيماء»، وهو ما يؤكد نشاط التجارة بين مصر وشبه الجزيرة العربية.
ويقول المؤرخ والمحاضر الدولي، إنّ المصري القديم انتقل لجلب البخور والنحاس وهو ما ينقلنا إلى منطقة «مدين» التي تعتبر إحدى المناطق التجارية الهامة، لافتًا إلى وجود مكونات تم استخراجها من شجرة الصنوبر، بالإضافة إلى بعض المكونات التي تواجدت فقط في أواسط أوروبا وبعض الأماكن الاستوائية، ما يعني أنّ المصري القديم عبر البحر المتوسط وتقابل مع الجزر اليونانية، وربما يكون المصري القديم وصل أيضًا لوسط أوروبا.
وكانت أوعية سينيتناي الكانوبية- الأوعية التي تم فيها تخزين أعضاء المتوفى المحنطة- تم اكتشافها في مقبرة بوادي الملوك عام 1900 على يد هوارد كارتر، عالم الآثار البريطاني الذي اشتهر فيما بعد لدوره في اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، يضيف «الشماع»: «اللي اكتشف مومياء سينتيناي عالم الآثار هوارد كارتر منذ أكثر من قرن، واكتشفها قبل ما يشتهر في أوائل القرن، وكارتر اسمه مرتبط بمقبرة توت عنخ آمون، وكان من ضمن محتويات المقبرة اكتشف السمسم وفي الوقت ده، كان أشهر مكان في العالم بيزرع السمسم هي الهند، وده معناه أنّ المصري القديم تاجر مع الهند، وده بيأكد أيضًا ارتباط المصري القديم بالأمم والحضارات الأخرى وتعلم لغاتهم».