بقلم اللواء المتقاعد: أحمد عيسى المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
يشهد النظام الدولي المتعارف عليه في حقل العلوم السياسية والعلاقات الدولية بنظام القطب الواحد حالة من التحول الجذري،التي كانت قد بدأت العام 2008 وهي السنة التي شهدت انهيار سوق العقارات الأمريكية، والتي أنتجت بدورها الأزمة المالية العالمية العام 2009، كما أنتجت في السياق ذاته وبشكل لا يخلو من دلالة حالة من الفوضى في الشرق الأوسط كانت قد بدأت العام 2011مع إندلاع موجة ما عرف بالربيع العربي أو عشرية الدم.
وفيما سرعت الحرب الروسية الأطلسية التي اندلعت منذ اكثر من عام ونصف العام على أرض أوكرانيا من وتيرة هذا التحول، إلا أنالنظام القديم “نظام القطب الواحد” لم يسقط ويختفي تماماً، وهويواجه عقداً حاسماً وفقاً لإستراتيجية بايدن للأمن القومي التي نشرها في اكتوير العام 2022، والتي ذكر في مقدمتها أن التنافس الشديد على قيادة النظام العالمي بين واشنطن وشركائها من جهة، والصين وحلفائها من جهة اخرى قد يتحول إلى صراع محتدم.
كما أن النظام المنشود (متعدد الأقطاب) لم يقف على قدميه بعد،وإن بدت أساساته تترسخ أكثر فأكثر، لاسيما وأنه يكاد يكون هناك إجماع بين كل مكونات وأفراد النظام الدولي، أن النظام الجديدالمنشود سيكون يقيناً أكثر عدلاً وأكثر قدرة على تحقيق الإستقرار والسلم والأمن للعالم، المواصفات والغايات التي لم ينجح في تحقيقها نظام القطب الواحد منذ هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عليه في اعقاب نهاية الحرب الباردة العام 1991، الأمر الذي تجلى أيما تجلي في البيان الختامي لقمة بريكس الأخيرة التي انعقدت في جوهانسبرغ في 24/8/2023.
أما النظام الإقليمي في الشرق الأوسط والذي كان قد نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، واصبح منطقة نفوذ أمريكية خالصة بعد نهاية الحرب الباردة فلم ينهار نهائياً، وبالمقابل يشهد تشكل جديدتصعد فيه قوى ولاعبين جدد، ولم يعد خافياً على أي من المراقبين أنالمملكة العربية السعودية هي أبرزهؤلاء اللاعبين على الإطلاقلمكانتها الدينية والإقتصادية، والأهم لبقائها بعيدة عن استهداف الربيع العربي الذي أضعف لاعبين تقليدين في المنطقة.
ويبدو هنا أن القوى الرئيسية في الشرق الأوسط الذي يعتبر مركز العالم العربي وقلب العالم الإسلامي (بطبعتيه السنية والشيعية)،تسعى أن لا يكون الشرق الأوسط ساحة تنخرط فيها قواه الإقليمية للعب دور الوكلاء في المنافسة التي قد تتحول لصراع محتدم بين القوى العظمى، كما كان الحال خلال الحرب الباردة، التي شهدت إعلان قيام إسرائيل في المنطقة العام 1948، والنكبة الفلسطينيةالتي تعتبر جريمة متواصلة، كما شهدت أكثر من عشرة حروب طاحنة بين إسرائيل من جهة والجيوش النظامية للدول العربية المجاورة لفلسطين من جهة أخرى، علاوة على أنها شهدت اندلاع انتفاضتين فلسطينيتين كبيرتين ضد الإحتلال الصهيوني لفلسطين، والأهم أنها شهدت ميلاد الحركة الوطنية الفلسطينية ممثلة بمنظمة التحرير الفلسطينية.
وكان لافتاً في هذا الشأن أن الدول العربية كانت قد أعلنت على لسان قادتها، الأمر الذي عكسه البيان التامي للقمة العربية التي انعقدت في جدة في شهر مايو من العام الجاري، أن الشرق الأوسط لن يكون منطقة ذيلية في النظام العالمي الذي قطع شوطا في التشكل، ومقابل ذلك ترى هذه الدول ومعها قوى رئيسية (إسلامية) أخرى في الإقليم، أن المنطقة تمتلك من الموارد الطبيعية والبشرية والحضارية ما يؤهلها أن تكون قطب فاعل في النظام الدولي الجديد.
وفي هذا الشأن كان المفكر والفيلسوف الروسي المعروف (الكسندر دوغين) قد كتب في مقالة له حملت عنوان (عالم سبعي الأقطاب) يقرأ فيها معاني ودلالات قمة بريكس ونتائجها نشرها موقع (روسيا جيوبولتيك) الإلكتروني بتاريخ 30/8/2023، موضحاً أن النظام العالمي الجديد سيتشكل من ثقافات وحضارات سبعة هي “الغرب الذي يضم الأتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، والصين، والهند، وروسيا، وافريقيا، وأمريكا اللاتينية، والعالم الإسلامي بطبعتيه (السنية والشيعية).
وأضاف دوغين في مقالته أنه بإعلان إنضمام كل من المملكة العربية السعودية وايران ومصر ودولة الإمارات لمجموعة بريكس يكون قد اكتمل البناء الذي سيكون عليه النظام العالمي الجديد، الأمر الذي يعني أن الغرب الذي هيمن على النظام العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لن يكون بمقدوره مواصلة الهيمنة على باقي حضارات وثقافات المجتمع البشري.
ولما كان هناك علاقة وثيقة بين (نجاحات) المشروع الغربي الصهيوني الإستعماري في فلسطين وتحولات النظام الدولي فإن ما تقدم يظهر أن البيئة الإستراتيجية المحيطة بكل من الحركة الصهيونية (إسرائيل)، والحركة الوطنية الفلسطينية (منظمة التحرير الفلسطينية) مختلفة عن البيئة الإستراتيجية التي أحاطت بهم خلال المرات الثلاث السابقة من تحولات النظام الدولي، فمن المشروع التساؤل هل سينصف النظام الجديد الفلسطينيين ويرفع الظلم الذي نتج عن تحولاته السابقة؟ وهل سيوفر للفلسطينيين الحماية الدولية ويمنع حدوث نكبة جديدة بحقهم تهدد بها حكومة إسرائيل الحالية صبح مساء؟ وهل سيسمح لنتنياهو بإجثتات فكرة قيام دولة فلسطينية كما صرح مؤخراً؟ وهل سيسمح لنتنياهو ومعه سموتريش وبن غفير بحسم الصراع مع الفلسطينيين وإكمال صناعة دولة إسرائيل كدولة يهودية خالصة في المنطقة؟
وفيما وفر البيان الختامي لقمة بريكس إجابات نظرية لبعض من هذه الأسئلة، إذ أعرب عن تمسك المجموعة بحل الدولتين وإنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة، ودعا المجتمع الدولي الى دعم المفاوضات المباشرة على اساس القانون الدولي بما في ذلك قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وكذلك مبادرة السلام العربية، كما أعرب عن قلق المجموعة إزاء تدهور الوضع الإنساني في فلسطين الناجم عن تصاعد العنف في ظل الإحتلال المستمر وتوسيع المستوطنات غير القانونية، إلا أن سؤال الأسئلة يبقى هل سيواصل النظام الجديد غض النظر عن جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، لا سيما بعد ثبوت أنها دولة فصل عنصري (ابارتايد)وجب عقابها؟ وهل سيفرض النظام الجديد على إسرائيل الإلتزام بالشرعية الدولية وقراراتها؟ وهل سيجبرها على تنفيذ هذه القرارات؟
بالمقابل هل سينجح الفلسطينيون بإستثمار الفرص التي توفرها لهم هذه المرة من تحولات النظام الدولي؟ وهل سينجحوا في منع الحركة الصهيونية بطبعتها النيوصهيونية من إستكمال تنفيذ مشروعها الإستعماري الإستيطاني في فلسطين الذي ثبت فشله على الأرض حتى الآن؟ وماذا عليهم أن يفعلوا لدفع النظام الجديد الى اخراج خطابه لمستوى الأفعال؟ لا سيما وأن النظام الدولي الجديد لن يكون أكثر ملكية من الملك!
في الواقع لا خيار أمام الفلسطينيين إلا النجاح، لأن عدم النجاح ببساطة يعني بقاء الفلسطينيين تحت الإحتلال لعقود قادمة بانتظارتحول جديد آخر في النظام الدولي، والأهم أن النجاح يتطلب الإيمان بالقدرة على تحقيق النجاح، وهذا يتطلب تعريف معنى النجاح أولاً، ثم تطوير مؤشرات قياسه ثانياً، وأخيراً معرفة من هم من الفلسطينيين الذين قدرهم أن يرفعوا راية النصر والنجاح في هذه اللحظة من الزمن، واين عليهم أن يتموضعوا في هذا البحر العاصف متلاطم الأمواج؟ وماهي الأسلحة الحاسمة التي عليهم امتلاكها التي تضمن لهم تحقيق النصر المؤزر؟ وما هي ساحةالمعركة الحاسمة للصراع التي عليهم إستثمار جل موارده وطاقاتهم فيها؟ وماهو خطابهم للشعب الفلسطيني الذي من حقه أن يعرف ماذا يجري ولماذا يجري؟ ثم ما هو خطابهم للأمتين العربية والإسلامية، ومن خلفهم المجتمع الدولي خاصة المجتمعات اليهودية سواء تلك المؤيدة لإسرائيل العنصرية والأبارتايد، ام المطالبة باسقاطها كدولة ابارتايد وفصل عنصري.