لعلها رواية السيرة الذاتية، هي كذلك، بما تحمل من متعة السرد؛ ذلك أن القراءة مهما هدفت الى التوعية والتعريف، إلا أن عمادها المتعة، القادمة من اللغة والأسلوب، وأحسب أن العمل الأدبي الذي بين أيدينا قد منحنا كلا الأمرين: الوعي والمتعة، ولي وللقراء تقديم المتعة على الوعي.
نص محكم وممتع، وددنا لو طال كثيراً، بما حوى من رواية وقصص وأفلام متخيلة، واسكتشات مسرحية. نص الدوائر هو داخل القصص، بدايات ونهايات الأحداث، وبداية السيرة ونهايتها، حتى ذلك الزمن الذي توقف عنده.
سنرى الطفل الذي يميل للخلوة، صار ملتقى ومجمعاً، داخل الحركة الوطنية، مدفوعاً بمشاعر إنسانية ووعي مرتبط بواحدة من أهم الصفات الثورية: الثقة بالنصر والتحرر من الاحتلال.
جمال زقوت الرفيق المناضل، يصير قاصاً سارداً، كما لم نتوقع لولا ما قرأنا من فصول الكتاب على الفيس بوك قبل بضع سنوات، لكنه هنا، وقد جمع فصوله، يقدم لنا نفسه راوياً، على طريق الرواية.
ما إن نقف عند العنوان: “غزاوي: سردية الشقاء والأمل” لجمال زقوت نستمتع باسمين بصورة المصور الفوتوجرافي عمر القاطع، حيث يقود طفل دراجته الهوائية في البحر، تركب وراءه طفلة، لتمسك الأربع أيادي بمقود الدراجة التي تمخر ماء البحر بحيث غطس العجلان معاً، البحر، في مشهد فريد، جرب فيه الطفل والطفلة البحر فضاء للدراجة، (كما جربت هدى بركات يوماً في روايتها البيروتية “حارث البحر”، وتظهر ثلاث أمواج “الموجة تجري ورا الموجة عايزة تطولها”، بزبدها الأبيض، فظهر زبد اثنتين أبيض وسط الصورة وراء الطفل والطفلة على دراجتهما، تلك الدراجة التي أحالتها عبقريتهما الى دراجة بحرية، فيما الثالثة تصل الشاطئ، ربما لتبدأ جزراً آخر، وهكذا منذ كان البحر مداً وجزراً.
في الصورة، ينهمك القائد في القيادة، حتى تستمر الدراجة البحرية في طريقها، في حين راحت شريكته في الرحلة البحرية تستمتع بمنظر البحر وأمواجه، غير خائفين.
ترى ما الأحداث التي أثرت في شخصية هذا الرفيق المقاوم؟ وما هي مصادر تكوينه؟
بعد الانتهاء من الكتاب البالغ 387 صفحة، الصادر عن مركز الدراسات الفلسطينية، سيجد كل منا نفسه قد وقف عند حدث ما، أما كاتب هذه السطور فقد وجد نفسه يقف مع ذلك الطفل الذي راح يخلو مع نفسه متأملا أمواج بحر مخيم الشاطئ، كما دار معه في حلقة صوفية في ليلة هناك، لكنه ظل طويلا في تلك الليلة التي جلبت فيها إرادة الرفيق الشاب من البحر الى جبال رام الله والقدس، لتبدأ بلورة ما عرف بالقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الأولى، ولتبدأ نصوص نداءات القيادة الموحدة المقاومة، تلك التي مثلت طريقاً جامعة لنا في سنوات الانتفاضة، والتي كان لجمال زقوت فضيلة سبق المشاركة والتأسيس لعمل وطني محميّ بالوحدة الوطنية، في وعي مدهش تجاوز مصلحة التيارات السياسية باتجاه مصلحة الوطن العليا، في إيمان فريد بالتخلص من الاحتلال.
يمكن لنا كذلك الوقف على الحدود الفلسطينية اللبنانية لنتأمل تلك الوقفة العزيزة للرفيق جمال، ولصحبه قادة الانتفاضة وسلطات الاحتلال تنفيهم عن وطنهم، لنذهب في خيالات زقوت الى عام 1976، وما ارتبط في ذهنه من أسفار عقب استشهاد أخيه بشير من مصر حيث كان طالبا في كلية الطب، من القاهرة الى سورية فبيروت، التي صار له فيها ذكريات من قبل، والتي ستصير له فيها ذكريات فيما بعد، تأخذه الى تونس وعواصم أخرى، من ضمنها صوفيا عاصمة بلغاريا، حين يضطر الى التحول اليها، بعد ما كان من أحداث عام 1977، فتلتقي مصائره بمصير المتنقلين واللاجئين والمناضلين، بين البلاد بهدف العودة الى البلد الحبيب فلسطين.
وفي ذلك كله كان بشير زقوت المناضل في صفوف الحركة الوطنية في عمق التجربة، شاحنه بشحنات غضب وجدية نحو أمل التخلص من الاحتلال، ولعل بشير كان أحد أهم مصادر التكوين الثوري والإنساني له، وهو الذي تجلت فيه الثورة والأمل والوعي.
في التأسيس لعالم الرفيق نراه يبدأ من طفولة الطفل الذي كانه في المخيم ليصف لنا ما نعرفه من حياة اللاجئين، لكنه وقد ذوّتها، نكتشف عن قرب معنى تلك الحياة التي نجح في جعلنا نعيشها لنختبر قسوتها. في حين بذكاء يستحضر عالم ما قبل 1948، وعما كان من احتلال انجليزي، وهجرات، وما بدأ من نضال شعبي.
ولنا الوقوف في مرحلة بلغاريا شرق أوروبا، وما كان يستغرق فيه الكاتب من وصف مدهش لأمرين، المكان، ووجود الطلبة الفلسطينيين كمناضلين خارج الوطن، حيث استمتعنا ونحن نقف هناك بوصفه الجمالي للبيئة الجميلة الخضراء وكل ما فيه من جمال ومشاعر رقيقة، في الوقت الذي انسجم في ذلك سرده عن الحركة الوطنية هناك، فتعانق في النص ما هو إنساني عاطفي، مع ما هو وطني جاد.
ولنجد أنفسنا نرافقه في فصوله من رفيقة دربه نائلة، التي تبدأ فصول العلاقة العاطفية والوطنية معاً، لتصبح العلاقة فيما بعد خيطاً متيناً ناظماً لسنوات النضال في الثمانينات حين عاد من السفر بطريقة مدهشة، فبعد أن صعبت عودته من صوفيا الى غزة عن طريق القاهرة، فإنه يعود بتصريح الاحتلال ووثيق السفر المصرية من صوفيا الى مطار اللد، ليصفع سلطات الاحتلال التي لم تجد خيارا الى تركه يعود الى بيته سالماً، في خبث مقصود لمحاصرته وسجنه. في ذلك الخيط الناظم، تتعرض الزوجة لتعذيب وصولاً للإجهاض، وتبدأ معركة مساءلة الاحتلال، لتبدأ فصول أخرى من الانتفاضة الأولى، فتتخلص سلطات الاحتلال من “إزعاج جمال زقوت” وصحبه.
في ظل توقفنا عند أحداث في السيرة-الرواية، سنجد الوعي والثقافة، وهذا مرتبط بتناولنا بشكل خاص لمصادر تكوينه؛ حيث يظهر أن القراءة كانت مصدراً مهماً، وهي كما يبدو مرتبطة بقراءة الكتب والناس، لذلك نراه بعد زمن ما زال يحنّ لكتبه التي شحنها من بلغاريا، ولكنها وصلت البلاد، ولم تصل إليه. وهي قراءة بدأت في طفولته المبكرة، وتطورت مع كل مرحلة عاشها، ولعل الكتاب هنا هو أحد تجلياته؛ حيث أنه يدل على مدى القدرات الكتابية لديه، تلك القادمة من قراءاته. وبالمجمل فإن التحليل اللغوي لنص الكاتب هنا يدل على تمكنه فكرياً؛ فالبناء السردي المحكم يدل على فكر انطلق منه، وهو فكر مرتبط بترتيب السرد والوعي. ولعل الكتاب دلالة على موضوعية تحلى بها، ولو زادت الصفحات لأمكنه ذكر ما غاب بغير قصد. إن التحليل النفسي-الاجتماعي السياسي وجد مجالا في تتبعه في وصفه للشخصيات، ولعل تركه مسافة بينه وبين نفسه حين يسرد عنها، كذلك تركه مسافة بينه وبين الآخرين حين يسرد عنهم لهو دلالة على ما نقول.
وقد انتقل ذلك الى موضعة نفسه ما بين وجوده في السلطة الجديدة حين تعيّن في صفوفها كمناضل يشارك في التأسيس، وموقف المعارض في الوقت نفسه لما وجده من ثغرات مبكرة، وظل هذا الأمر معه، منطلقا من الحرص على المأسسة الوطنية والنقد الوطني، لما لليسار من تأثير في مسألة الالتزام. وهنا فإن تتبع أسماء الشخصيات الوطنية الواردة في الأحداث المروية يمنحنا رؤية المؤثرات والرؤية، حيث كان الهم الوطني خيطا ناظما لها، ويمكن هنا بشكل خاص ما ظهر من وصف للدكتور حيدر عبد الشافي، من وصف موضوعي.
وعوداً على بدء ونحن نتأمل “الدراجة الهوائية البحرية الجوية” التي أبدع في التقاطها المصور عمر القاطع، سنجد أن إيمانه بالمشاركة بين الرجل والمرأة اجتماعيا ووطنيا مرتبط بالتزام ثقافي وفكري عال، وقد انعكس في علاقته بزوجته وشريكته، فكان الالتزام الاجتماعي لديه أصيلاً. إن تصميم مايا شامي لصورة الغلاف يعبر فعلا عن كل هذه الرحلة على الأرض.
المعاناة بشكل عام وخاص، ومنها رمزية البيت وواقعيته جعلته حريصاً ومقدراً للاستقرار، ولعل حادثة هدم مجموعة بيوت ارتبط بمشروع صهيوني للساحل، من بينها بيت أسرته تركت أثراً عميقاً في نفسه، وقد استطاع التعبير عن البيت-الوطن بشكل مؤثّر. وهذا ما جعل مجد طفله يستشعره من أبيه دون كلام، حين طلب منه في العودة من رام الله الى غزة الانعطاف الى أسدود بلدهم وبيتهم الأصلي.
بقي أن نقول إن تيمة البحر ترك الأثر العميق على الكاتب وبالتالي نصه، ويمكن هنا تتبع صورة البحر ومضمونه في السردية، بما عناه من أمل وشقاء ومشاعر، فيما يعطي وفيما أخذ، لذلك ثمة سردية بحرية هنا، لها مصداقية، تماماً كما في سرديته عن الأماكن التي تنتقل فيها وأقام. أما استغراقه في وصف بلغاريا واليونان، فقد يدلّ على السرور الذي ارتبط بتلك الأماكن، والذي حضر في سرديته المصرية في مرحلته الأولى خارج الوطن.
نجح الكاتب في تشويقنا وإمتاعنا، تاركين الحديث عن دوره الوطني وسرده التاريخي لمقال آخر، خاصة الانتفاضة الأولى، وبدايات الحلول السياسية.
“غزاوي: سردية الشقاء والأمل”، يبدو أنه سيتلوها سردية أمل جديد تبدأ من حيث انتهى هنا، ليروي عما جاء بعد أوسلو، وما جرى كثير، وقد كان السارد في عمقه أيضاً.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0