أسـئـلـة الـحـرب (2) …!! حسن خضر
2023 Dec,05
تكلمنا في مقالة الثلاثاء الماضي عن اثنين من تجليات التضامن الأوروبي والأميركي مع الإسرائيليين. ويبقى أن نفكّر في أسئلة من نوع: لماذا، وما هي مُحرّضات وأسباب التضامن؟ وهذا موضوع معالجة اليوم.
وبما أن الأمر لا يحتمل التبسيط، فلا ينبغي التفكير في سبب واحد، بطبيعة الحال، بل محاولة العثور على مُحرّضات وأسباب مختلفة يُفسّر اجتماعها وتفاعلها ما حدث منذ اندلاع الحرب حتى الآن.
وإذا أردنا إمساك الثور من قرنيه، فلنقل: إن التضامن الرسمي العربي مع الفلسطينيين (بصرف النظر عن ترجماته المحتملة على الأرض، ولو من باب رفع العتب، كما كان في حالات كثيرة) شكّل شبكة أمان للفلسطينيين، على مدار عقود طويلة، سواء في المحافل الدولية، أو العلاقات الثنائية بين دول عربية ودول أُخرى في العالم.
ويبدو أن هذا قد انتهى الآن، فللمرة الأولى منذ النكبة يجد الفلسطينيون أنفسهم في العراء. وعلاوة على هذا كله، لم يتضح مدى عمق المصالح المشتركة بين إسرائيل وأنظمة في العالم العربي، كما نرى الآن. والأهم أن عدداً من تلك الأنظمة لا يجد صعوبة في التماهي مع، وتأييد، الأهداف التي وضعها الإسرائيليون نصب أعينهم منذ اليوم الأوّل للحرب. وهذا ما يدركه الأوروبيون والأميركيون، فسياساتهم الحالية لا تحظى بقبول الإسرائيليين وحسب، بل والحلفاء العرب أيضاً.
وطالما تكلمنا عن شبكات الأمان، فمن المتوقع أن يسارع البعض إلى استنتاج أن «محور المقاومة» يشكّل شبكة أمان بديلة. والواقع أن في مجرد انتساب فريق من الفلسطينيين، الفريق الذي يخوض الحرب في غزة الآن، إلى المحور المذكور، ما ينتقص مِنْ، ويشكّل عبئاً ثقيلاً على الرصيد الرمزي والسياسي للمسألة الفلسطينية في العالم.
ولكي تكون هذه المسألة مفهومة بشكل أفضل. فلنقل إن وجود شبكة أمان عربية، وحتى مع فريق كهذا، كان من شأنه الحد من ردة الفعل الإسرائيلية ومن التداعيات السلبية للتضامن الأوروبي ـ الأميركي غير المسبوق مع الإسرائيليين، فربما كان التوصل إلى قرار بوقف إطلاق النار أقل صعوبة وتعقيداً مما يبدو عليه الآن، ناهيك عن موضوع المساعدات الإنسانية، وما لا يحصى من تفاصيل أُخرى.
وربما كان الأسوأ من هذا كله، أن الانتساب إلى «محور المقاومة» يجعل من الحرب على غزة، في نظر الإسرائيليين وحلفائهم، حرباً على المحور نفسه، ووسيلة إيضاح لتعليم الآخرين دروساً عملية في الردع تحول دون المجازفة بالانخراط في حرب تبدو كارثية ومُكلفة.
والواقع أن عدداً لا بأس به من الناس (خاصة في منابر الإبراهيميين الإعلامية) يتهم بقية أعضاء المحور بالنفاق لأنهم لم يهبوا لنجدة الفلسطينيين.
ومن جانب آخر، إذا كان الرهان على تضامن الأوروبيين والأميركيين مع الفلسطينيين (أعني الناس العاديين، وهؤلاء لديهم إمكانية الضغط على حكوماتهم وتغيير مواقفها) فإن الانتساب إلى المحور المذكور لا يشجع الكثيرين على التضامن معه. فبين أعضاء المحور المذكور من ارتكب جرائم حرب، كما هو الشأن في سورية، والمحور عموماً يضم قوى محافظة، تتبنى خطابات دينية، ولا تشكو ندرة التمركزات الطائفية. وهذا كله مكروه على صعيد العالم.
وطالما وصلنا إلى هذا الحد، ينبغي الكلام عن أمر لا يحظى بما يستحق من عناية واهتمام. المقصود: الضرر الهائل (لن يزول قبل مائة عام على الأقل) الذي ألحقه صعود الدواعش، والجهاديات السلفية، بصورة الإسلام والمسلمين في كل مكان من العالم. وهذا، بدوره، ينسحب على تجليات مختلفة للإسلام السياسي.
لن تجد ما يوحي بهذا في كلام الساسة الغربيين، ولكن في مشاعر الناس العاديين، وكذلك النقاش العام في حقلي الثقافة الشعبية والعالِمة، ما يدل على تحوّل عميق في هذا الشأن. وكما يحدث، دائماً، صار الكلام عن الإسلاموفوبيا، مثلاً، وسيلة لحجب حقيقة الدور الذي لعبته ظاهرة الدواعش والجهاديات السلفية، في صعود الشعبويات والقوميات العنصرية البيضاء في الغرب (دعك من الغرب، الصحيح أن الهند تشهد، أيضاً، ردة فعل سلبية تماماً، وأن التمركزات الشعبوية والقومية الهندوسية تجعل من نقد الإسلام والمسلمين مكوّناً أساسياً في عمارتها الأيديولوجية).
وبهذا المعنى، لا تُسهم أيديولوجيا حماس الإخوانية في إكسابها تعاطف، وتضامن، قطاعات واسعة من الناس في الغرب، ومناطق أُخرى من العالم. أما المظاهرات التي ضمت مئات الآلاف في عواصم أوروبية مختلفة، فتُفسّر بوتيرة القتل، غير المسبوقة، التي طالت المدنيين الفلسطينيين من ناحية، وما تراكم من رصيد للمسألة الفلسطينية على مدار عقود طويلة، خاصة في الجامعات الغربية في العقود القليلة الماضية، من ناحية ثانية.
علاوة على ما تقدّم، تبقى ملاحظة أخيرة: نجد على ألسنة الناطقين الأميركيين والأوروبيين ما يبرر ويفسّر التضامن غير المسبوق مع الإسرائيليين بمفاجأة وهول هجوم السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي.
وإذا أردنا إمساك الثور من قرنيه، مرّة أُخرى، فلنقل: إن ذريعة الهجوم والهول (دون التقليل من شأنها) مُجرّد واجهة خطابية، لا تختزل محرّضات وأسباب التضامن، ولا تنوب عنها. فالمُحرّضات، كما الأسباب، بقدر ما يتعلّق الأمر بهؤلاء (الأمر مختلف بالنسبة للإسرائيليين) هي ما تكلمنا عنه حتى الآن.
فاصل ونواصل.