كان معروفاً أنّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لم تكن تهيم حبّاً برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو على خلفيّاتٍ كثيرة ومعروفة، وغالباً ما كانت علنية.
اختلف الوضع بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، وهرعت الولايات المتحدة إلى المنطقة بعد أن لاحظت مؤشّرات انهيار في ضوء صدمة «الطوفان»، وسارعت إلى الإمساك السريع بكلّ خيوط الردّ الإسرائيلي، وأعادت تشكيل الحكومة الحربية بسرعة البرق، ووزّعت المسؤوليات، وجلست في غرفة العمليات، وتولّت بصورةٍ لم يشهد التاريخ السياسي والدبلوماسي سابقة كالتي شهدناها على المسرح السياسي في إسرائيل منذ قيامها، ولم تقم الولايات المتحدة بمثل هذا الدور في أيّ مكانٍ في العالم.
وأشرف بايدن شخصياً على مجمل هذا الوضع غير المسبوق، وغير المعهود، وترك لطواقمه الدبلوماسية والعسكرية والأمنية مهمّات مباشرة لضمان الإمساك التام بـ»الحالة» الإسرائيلية في أوضاع نظر إليها الأميركيون كحالة استثنائية وخاصة وعاجلة.
بدت الحرب الهمجية بكلّ ما انطوت عليه من إجرام وإبادة وتدمير من صناعة أميركية بتنفيذ إسرائيلي، وتحوّلت الدبلوماسية الإسرائيلية إلى ملحق هامشي بوزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وبدت القيادات العسكرية والأمنية في هذه الحرب وكأنّها الأذرع التنفيذية لإدارة هذه الحرب، وتجنّدت كل مؤسسات الدولة الأميركية لإنجاز أهداف هذه الحرب.
بدأت مشكلة الإدارة الأميركية مع حكومة التطرُّف «اليميني» عندما اختلط الأمر على نتنياهو منذ البداية، حين حوّل الحرب من اللحظة الأولى إلى فرصة للانتقام والإجرام بدلاً من مجابهة التحدّيات التي فرضتها أحداث السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المدوّية، وسيطرت عليه، وعلى كلّ طواقمه عقلية البطش المدمّر، بروح مغامرة ومنفعلة محمّلة بأثقال أيديولوجية زائدة عن الحاجة «السياسية» التي توارت إلى الخلف، مخلية الساحة أمام «فرصة» الإجرام والانتقام، بعد أن جمع بايدن وحشد ونظّم «الغرب» كلّه لدعم نتنياهو وحكومته حتى في لحظات جموحها نحو الجنون التام.
الإدارة الأميركية انتظرت في ضوء هذا الدعم المطلق، وفي ضوء انخراطها المباشر في الحرب، وتولّيها للإشراف المباشر عليها أن تتوقّف حكومة التطرّف والهمجية عن حرق السفن، وطرح الأهداف المستحيلة، واعتقدت هذه الحكومة أنّ الدعم الأميركي هذه المرّة سيظلّ قائماً ومطلقاً لأنّ الولايات المتحدة نفسها هي الخاسر الأكبر من عدم إطلاق يد نتنياهو وطواقمه، وهي التي ستدفع الثمن الأكبر في حالة فشل دولة الاحتلال في تحقيق ما طرحته من تلك الأهداف.
لعبة ابتزازية جديدة من ألاعيبه المعهودة في الابتزاز وضعت الإدارة الأميركية في مأزقٍ كبير لم يعد بالإمكان الخروج منه دون أن يرفع بايدن «الكرت الأحمر» في وجه هذه الحكومة.
واضح أنّ الولايات المتحدة لا تريد سحق حركة حماس واستئصالها لأنّ ذلك «مستحيل» في الواقع، ويكفي أن تكفّ بأن تبقى تهديداً لإسرائيل، وواضح أنّ الإدارة الأميركية لا تريد توسيع الحرب، في حين تفيد بعض المعلومات بأنّ نتنياهو حاول إقناع الولايات المتحدة بهذا الخيار، وألمح إلى إمكانية الإقدام عليه منفرّداً.
وواضح أنّ الإدارة الأميركية لا تريد استبعاد السلطة الوطنية الفلسطينية عن دورٍ «ما» في قطاع غزة بعد انتهاء الحرب، في حين يصمّم نتنياهو وجماعاته على هذا الاستبعاد، وبعد فرض شروطه عليها بالكامل حتى «يفكّر» في مشاركتها، وهو يراها عدوّاً لا يقلّ خطراً على إسرائيل من خطر «حماس»، وهو بهذا المعنى مُنقاد بالكامل لأفكار بن غفير وسموتريتش وغيرهما من مهووسي «اليمين الجديد» في إسرائيل، وهو لا يُعير أيّ اهتمام للوضع العربي في كلّ من مصر والأردن، بدليل أنّه حاول ومنذ اللحظات الأولى للحرب الذهاب إلى خيار «التهجير الخارجي»، ولم يتراجع كلياً بعد، وهو حوّل «التهجير الداخلي» إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة في التاريخ المعاصر والحديث.
وواضح أنّه سيحاول فرض وجود عسكري إسرائيلي في القطاع، والإشراف الأمني المباشر، واقتطاع جزء منه في حين لا ترى الولايات المتحدة أنّ أهدافا كهذه يمكنها أن تساهم في إعادة ترميم الاستراتيجية الأميركية في كامل منطقة الإقليم، وأنّ من شأن الذهاب بعيداً بها أن يُلحق أضراراً بالغة بالسياسة الأميركية.
وواضح أنّ سياسات نتنياهو ستضرب صلب التوجّه الأميركي في بناء الممرّ الهندي، وفي قطع الطريق على الصين، وواضح، أيضاً، أنّ المزيد من «التورُّط» في أوحال الشرق الأوسط سيعني النهاية المأساوية للحرب في أوكرانيا من زاوية الأهداف الأميركية.
والأوضح من هذا كلّه أنّ الولايات المتحدة بدت معزولةً بالكامل عن العالم، وعن عدد من الدول الكبيرة الحليفة لها، وأصبحت أمام مساءلات دولية مُحرجة، والأهمّ أنّها أصبحت مكشوفةً للرأي العام الأميركي، ومطاردةً من الأجنحة الشابّة في «الحزب الديمقراطي» على بُعد أقلّ من عامٍ من الانتخابات الأميركية.
باختصار، دعمت الولايات المتحدة سياسات نتنياهو في مرحلة خوفها على «الدولة» الإسرائيلية لكامل مرحلة امتصاص الصدمة المروّعة التي تعرّضت لها دولة الاحتلال في السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل، لكنّ الولايات المتحدة بدأت ببعض المراجعات بعد أن أصبحت السياسات الخاصّة لهذه الحكومة الإجرامية الموغلة في التطرّف والمسكونة أولاً وقبل كل شيء بالتدمير والإبادة الانتقامية تلحق بها أضراراً كبيرة، خصوصاً أنّ مثل هذه المراجعات هي مفتاحها لإعادة الترميم المطلوبة.
كان يمكن للولايات المتحدة أن تؤجّل «الكرت الأحمر» لو أنّ إسرائيل وجدت لنفسها، وللولايات المتحدة «مخرجاً» من هذه الورطة، إلّا أنّ الفشل الفاضح على كلّ الصعد والمستويات «أجبر» الإدارة الأميركية على رفعه قبل فوات الأوان.
وبالتالي فإنّ «الكرت الأحمر» في وجه نتنياهو سببه الأوّل والحقيقي، ودافعه الأهمّ والأكبر هو الفشل في كل شيء، باستثناء «النجاح» الباهر لنتنياهو بالقتل والإجرام والإبادة، وهي قضايا لم تعد الإدارة الأميركية قادرةً على تحمُّل تبعاتها السياسية والأخلاقية بالقدر الذي راهن عليها نتنياهو، وحاول ابتزاز الإدارة الأميركية بشأنها.
ما زالت ردود الأفعال الإسرائيلية على «كرت بايدن» في بداياتها الأولى، ولنقل إنها ما زالت في طور الوصف والتوصيف، فمنهم من يراها مجرّد إظهار لخلافٍ كان يدور في الغرف المغلقة، وأنّ كل ما قام به بايدن هو التعبير العلني عنها، وأنّ الأمور قابلة للإصلاح والتفاهم المشترك، ومنهم من يرى أنّ المسألة أبعد وأكبر من أن يتمّ «التفاهم» حولها، وأنّ المسألة باتت تتعلّق بعزم الولايات المتحدة على طرح مبادرة سياسية باتت من المستحيل إعادة ترميم الإقليم من دونها، وهو ما يعني أنّ مشروع «اليمين المتطرّف» بات المطلوب استبعاده كلّياً من ساحة الصراع، طالما هو يسعى لحسم الصراع، كما لم يعد بالإمكان العودة إلى إدارة الصراع بالطريقة المعهودة على الأقلّ، ما يعني أنّ انفجاراً سياسياً بركانياً بين هذا «اليمين» المهزوم والمُطالَب بالرحيل وبين كلّ من سيسير في الرّكب الأميركي.
في حين يرى فريق ثالث أنّ مسألة الدولة الفلسطينية أصبحت في جيب الفلسطينيين، ما يعني أنّ نتنياهو قد خسر كلّ شيء، ولم يعد الحديث عنه بإعادة تشكيل الحكومة برئاسته ليس سوى «محاولة» أميركية لتلطيف الأجواء، وتهدئة الخواطر، لأنّ نتنياهو في الواقع يكون قد استعجل الرّحيل والمغادرة سياسياً، هو والجزء الأكبر من أعوانه وأقرانه وطواقمه.
ومع ذلك كلّه، أيضاً، فإنّ السّاعات الأخيرة في الحروب تحمل كلّ أنواع المغامرات والأخطار، خصوصاً أنّ بايدن قد اعترف ضمنيّاً أنّ الحرب قد فشلت، أو أنّ الانتصار الحاسم، أو حتى مجرّد الانتصار النسبي فيها بات صعباً.
فهل سيقوم نتنياهو وأعوانه من المغادرين معه «بضربة مقفي» أملاً في قلب بعض المعادلات، أو حتى لا يكون هذا الخروج مهيناً، أو حتى لا يذهب «اليمين» كلّه إلى هاوية جديدة من «تجديد» الصراع داخل المجتمع الصهيوني نفسه.
ويبقى السؤال هو: هل الولايات المتحدة في طموحها لإعادة ترميم منطقة الشرق الأوسط، بعد أن خسرت الحرب في أوكرانيا، وتقوّضت كلّ مساعيها لتحجيم الصين ستغامر مرّة أخرى بالحديث عن دولةٍ فلسطينية معلّقة في الهواء، وأن تعود فعلاً إلى «عملية سياسية» جديدة ليس فيها أيّ محتوى جديد سوى الحديث عن «أهمّيتها»؟
أمّ أنّها ستنتقل إلى مرحلةٍ جديدة من حلّ الصراع؟
هذه المسألة بالذّات هي أهمّ مستجدّ سياسي يحتاج إلى شحذ كلّ الهمم السياسية والفكرية في مرحلة ما بعد الفشل الأميركي، والهزيمة الإسرائيلية التي ما زالت لم تصل إلى مرحلة الافتضاح الكامل.
وهل سيلحق الفلسطينيون مسلسل الخداع الأميركي؟ أم سيفرضون شروطهم على العالم «الغربي»، وحاجة «الغرب» لترميم مصالحهم فيه بضمانات كاملة غير منقوصة هذه المرةّ؟ وما هي هذه الضمانات؟ وكيف يمكن تحديدها، وتحديد آليات تحقيقها؟
هذه هي موضوعات للكتابة في الأيّام والأسابيع القادمة.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0