يعكس تصويت الولايات المتحدة منفردة ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي لوقف إطلاق النار في غزة، ثم تصويت 153 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة لصالح “القرار”، مقابل رفض واشنطن وإسرائيل و8 دول فقط، حجم العزلة التي يعاني منها “الموقف الأمريكي” على الصعيد العالمي.
ورغم هذه “العزلة”، إلا أن واشنطن وحدها ما زالت قادرة على تحدي العالم، وإبطال رغبة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وأكثر من ثلاثة أرباع دول العالم في إنهاء الحرب الدموية في قطاع غزة، والتي تهدد الأمن والسلام الإقليميين.
وكل هذا بسبب “الفيتو” الذي تملكه الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، وعدم امتلاك قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لأي سلطة “إلزامية”، ما يضع مصير السلام العالمي رهين “مصالح ورغبات 5 دول تملك حق الفيتو”، ويمكن أن تستعمله حتى في القضايا والحروب التي تكون طرفا فيها.
وهذا الوضع يشل دور الأمم المتحدة وهيئاتها، والذي يمثل حفظ الأمن والسلام العالميين أسمى أهدافها التي أسست من أجلها بعد الحرب العالمية الثانية في 1945.
وهو ما دفع عدة دول ومنظمات قارية وإقليمية للمطالبة بإصلاح المنظومة الأممية، على رأسها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي يرفع دوما شعار “العالم أكبر من خمس”، لإنهاء هيمنة “دول الفيتو الخمس” على قرارات مجلس الأمن الدولي، وبالتالي على مصير السلام العالمي.
بين الحربين العالميتين وحرب غزة
ارتبطت نهاية الحرب العالمية الأولى (1914ـ 1918) بتشكيل عصبة الأمم، في 1920، والتي كان مقرها مدينة جنيف السويسرية، وضم مجلسها أربع دول دائمة العضوية (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان) وهي الدول المنتصرة في الحرب، وكان من المفروض أن تكون الولايات المتحدة العضو الدائم الخامس، لكن مجلس الشيوخ الأمريكي صوت (ضمنيا) ضد هذا الانضمام، وشغلت المقعد الخامس فيما بعد ألمانيا المنهزمة بعد نحو ثماني سنوات من نهاية الحرب.
كانت مهمة عصبة الأمم أن تحافظ على السلام والأمن الدوليين، وتمنع تكرار نشوب حرب عالمية ثانية، لكنها فشلت في مهمتها، وتجلى ذلك في انسحاب عضوين مهمين من مجلس العصبة وهما اليابان وألمانيا في عام 1933، واللذين شكلا فيما بعد حلف المحور، وانضمت إليهما إيطاليا، ودخلوا في حرب عالمية ثانية في 1939 ضد تحالف الإمبراطوريات القديمة بريطانيا وفرنسا، قبل أن تنضم إليهما قوتين صاعدتين من خارج مجلس عصبة الأمم، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.
انتصرت جيوش التحالف على قوات المحور، وشكلت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا بالإضافة إلى الصين، الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم (حلت رسميا في 1946).
والمهمة الأولى والرئيسية التي أوكلت للأمم المتحدة، نفسها التي أنشأت من أجلها عصبة الأمم؛ حفظ السلام والأمن العالميين.
حرب غزة أثبتت أن الأمم المتحدة أصبحت عاجزة عن أداء مهمتها الرئيسية في حفظ السلام العالمي، فمجلس الأمن الدولي لم يتمكن من إدانة القصف العشوائي للمدنيين في قطاع غزة، ولا إدانة قتل النساء والأطفال الفلسطينيين، ولا حتى قتل موظفين أمميين.
هذا الوضع الصعب والمصيري لمصداقية الأمم المتحدة، دفع أمينها العام أنطونيو غوتيريش، لاستعمال أقصى ما يملك من صلاحيات من خلال اللجوء إلى المادة 99 من الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة، والتي لم تستخدم في تاريخ المنظمة الدولية إلا نادرا، والتي تمنحه حق “لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حماية السلم والأمن الدوليين”.
وحذر غوتيريش، مجلس الأمن، في رسالة بعثها له في 6 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، من أن الحرب في غزة “قد تؤدي إلى تفاقم التهديدات القائمة للسلم والأمن الدوليين”.
إلا أنه مع كل هذا الضغط الأممي والدولي، استخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو في مجلس الأمن ضد مشروع قرار لوقف إطلاق النار صوتت لصالحه 13 دولة، وامتنعت بريطانيا على استحياء من التصويت، وجرى ذلك في 8 ديسمبر.
كانت صدمة قوية للعالم، علق عليها غوتيريش، بخيبة أمل قائلا إن “سلطة ومصداقية مجلس الأمن الدولي تقوضتا بسبب عدم القدرة على تبني قرار وقف إطلاق النار في قطاع غزة”.
عدم قدرة مجلس الأمن إصدار قرار لوقف الطريق نحو إبادة جماعية للفلسطينيين في غزة، يطرح تساؤلات حول الجدوى من منظمة أممية لا تستطيع القيام بأقل واجباتها لإنهاء الحروب والنزاعات الأكثر دموية في القرن الواحد والعشرين.
فكما كان فشل عصبة الأمم في منع الحرب العالمية الثانية بداية أفولها، فإن إخفاق الأمم المتحدة في إصدار قرار لوقف إطلاق النار ينهي الحرب الوحشية في غزة يضع مستقبلها على المحك.
فدول العالم ملزمة أكثر من أي وقت مضى عن البحث عن بدائل أو مؤسسات جديدة أكثر عدلا وفاعلية في تحقيق السلام الدولي، أو على الأقل تحديث الأمم المتحدة بشكل لا يجعل حياة البشرية رهينة بيد عصبة صغيرة من الأمم.
إذ لا يعقل أن يعلق السلام العالمي وحياة آلاف المدنيين بمصير دولة واحدة أو حتى خمس دول، في الوقت الذي يقتل الأطفال بالآلاف في غزة دون موقف دولي حازم.
هيكل جديد أو إصلاحات جذرية؟
لم تتحدث بعد أي دولة عن تشكيل هيكل أممي جديد بديل عن الأمم المتحدة أو حتى نقل مقرها من نيويورك إلى أي مدينة أخرى في العالم، لكن هناك حديث قوي عن إصلاح الأمم المتحدة وبالأخص توسيع عدد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن.
فالدول الدائمة المنهزمة في الحرب العالمية الثانية (ألمانيا اليابان وإيطاليا) تريد مقاعد دائمة في الأمم المتحدة على غرار ما تمتعت به في عصبة الأمم.
والدول العربية والإسلامية وقارتا إفريقيا وأمريكا اللاتينية تريد أيضا أن يكون لها مقاعد دائمة في مجلس الأمن الدولي، فالعالم تغير كثيرا بعد نحو ثماني عقود من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهناك الكثير من القوى الصاعدة اقتصاديا والفاعلة دبلوماسيا في حل النزاعات، والمساهمة بسخاء في تقديم المساعدات الإنسانية، والتي من الضروري أن تكون حاضرة في مجلس الأمن لإسماع أصوات الدول التي همشت لعقود.
والرئيس أردوغان، من بين الزعماء الذين دافعوا من أجل عالم أكثر عدلا، حيث طالب بتحديث الهيكل الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، بحيث لا يقتصر الأمر على زيادة عدد المقاعد الدائمة في مجلس الأمن الدولي، ولكن أيضا تغيير نظام حق النقض (فيتو).
حيث قال في العديد من تصريحاته بهذا الشأن “لا يمكن ترك مستقبل العالم وحياة الشعوب تحت رحمة خمس دول تمتلك حق النقض في مجلس الأمن”.
فحرب غزة تمثل ناقوس خطر للإنسانية، لأن احتكار خمس دول فقط للفيتو، يتيح لهذه الدول أو حلفائها ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وحتى جرائم إبادة دون أدنى رادع أو محاسبة جنائية، ما يهدد بتمدد الحرب إلى أطراف وساحات قتال أخرى، بشكل يؤدي إلى “تفاقم التهديدات القائمة للسلم والأمن الدوليين” على حد قول غوتيريش.
(الأناضول)