بين كفاءة الفشل وكفاءة النجاح..أكرم عطا الله

لا يختلف فلسطينيان على أن هذه اللحظة هي الأكثر سواداً في تاريخهم، فغربان التاريخ لا تتوقف عن النعيق في سماء حاضرهم.
ليس فقط في قطاع غزة الذي تحرثه الطائرات والدبابات ويتعرض لأبشع عملية إبادة وسحق ويتوزع أبناؤه بين شهيد وشريد، وتحول إلى مخزن كبير للحزن يكفي ليغطي الكرة الأرضية لعقود قادمة وهو يستعيد سيرة النكبة والتشرد والخيام وتاريخ الرحيل الطويل ورحلة الدم والدموع.
أما الطرف الآخر مما تبقى من وطن في الضفة فبات يتلاشى حيث يتم قضمه يومياً، حالة لا تسر صديقاً ولا تغيظ عدواً أصبحت معلقة في الهواء فقدت زحمها وبهتت حتى فقدت لونها وعاد الإسرائيلي ملغياً تقسيمات اتفاق قديم أصبح مثل سمكة همنغواي لكثرة ما نهشتها من حيتان لاحقت قارباً كان ربانه أكثر مغامرة من شيخ البحر العجوز في الرواية، تنتشر المستوطنات والحواجز مثل سرطان لا يتوقف ويتغوّل المستوطنون بكل هذا الاستقواء الذي تدعمه حكومة لا تعرف سوى مديح حارقي بلداتها مثل حوارة لأن في الحريق ما يعيد للكتاب المقدس مجده ويعيد للأسطورة روحها.
في كل هذا السواد الذي تعيشه اللحظة التاريخية يتقدم سؤال الفلسطيني العاثر: هل تدار السياسة بكفاءة من قبل طبقتها السياسية وفصائلها المنتشرة والمدججة ببلاغة الكلام التي حاولت أن تغطي كورقة توت على كل عورات العشوائية التي سادت تلك القرارات التي أودت بالفلسطيني إلى هذه الهاوية وإلى كل حفر السياسة التي كسرت أضلاع القضية ونزعت روح شعبها ليجد نفسه في أصعب لحظات تاريخه وأكثرها حلكة.
في السياسة كما غيرها، فالمخرجات هي وليدة مدخلاتها، والنتائج هي ابنة المقدمات والأداء الفلسطيني ومقدماته لم يكن يستولد في أفضل حالاته سوى هذه الكوميديا السوداء.
فمن المدهش أن يكون غير ذلك بعد كل هذا التخبط من قبل هواة السياسة الذين شاءت اللحظة التاريخية أن تمهد لهم الطريق نحو القرار كيف ولماذا ومتى ؟.
تلك قصة التاريخ الذي لم يتطور طبيعياً ليشهد كل هذا الخليط من الفهلوة في الفصائل التي تحولت إلى عشوائيات سياسية بفعل القرارات التي يهندسها الهواة، لكن الثمن كان فادحاً من دم ولحم … ومستقبل وقضية ونحن في وسط نهر الدم.
لم تتطور الحالة الفلسطينية وقواها وأحزابها تطوراً طبيعياً وخصوصاً بعد أن تشتت المجتمع الفلسطيني إثر النكبة. فقد تشكلت القوى كحالة مسلّحة تطلبت مؤهلات تتعلق بالجرأة والشجاعة والسرعة في التصرف، وهذه ليست مؤهلات سياسية تتطلب هدوءا في التفكير، وزاد طين بلة الطبقة السياسية أن الحركة الأسيرة التي كانت تتطلب مواصفات مشابهة كانت تزاحم على القرار السياسي ووصلت لأرفع المستويات في الطبقة السياسية للأحزاب الفلسطينية.
وخلال معمعان الثورة كان صوت السلاح أعلى كثيراً من صوت العقل الذي تنحى جانباً أو انزوى إلى مكانة أقل بدرجات من صوت الآخرين، فلم يكن له حظوظ بالصعود قال صديقي الكاتب: «عندما كنا في الجريدة كان يأتي مسلح يجلس على طرف المكتب وليس على الكرسي ويقول لنا: «أنتم بتوع الكلام والقلم» أي تندراً واحتقاراً وزهواً بمكانته السامية لكن ذلك كان يعكس تراتبية فرضت نفسها على طبقات السياسة العليا.
ذلك إلى حد ما كان مفهوماً في وطن ما زال محتلاً ولا يعلو فيه صوت فوق صوت المعركة، لكنه إلى حد كبير ونظراً لواقع شديد التعقيد سمح للمغامرين بلا حساب أن يتسيدوا في الحكم والسيطرة على القرار وجر شعب كامل مع انعدام كفاءة إدارة السياسة حد الفقر لكنها كانت تدفع بالأذكياء الذين يختلفون مع ما يعرف بثقافة القطيع للخارج، ولم يكن من المصادفة أن أعرف كثيراً من أذكى أذكياء الفصائل وجدوا أنفسهم على أرصفة السياسة وهوامشها.
وحين يصبح أنصاف الأذكياء في أعلى الهرم فمن الطبيعي أن يختاروا طواقمهم أقل ذكاء، وهذا شائع في العالم العربي حتى لا يصاب بحرج الشعور بدونية العقل أمامهم ويصبح أكثر ميلا لاختيار وفقاً لمؤهلات الولاء وكفاءة المديح ومعايير تختلف تماماً عن إدارة السياسة وهكذا تعيش الشعوب تندب حظها مع خليط من نظريات المؤامرة والقضاء والقدر لمواساة نفسها من كفاءة الفشل.
كيف فشل الفلسطينيون في كل الفصائل وخاصة الذين صنعوا الانقسام بإتقان محكم في إنهائه بنصف تلك الكفاءة ؟ الفارق الكبير بين كفاءة الفشل وكفاءة النجاح كيف لم يستوقفه كل المسار والقرار الفلسطيني الذي أوصل هذا الشعب إلى دركه الأسفل … كيف لم يتساءل الفلسطينيون على امتداد أكثر من ستة عشر عاماً عن هذا العجز وكيف لم تستوقفهم كل هذه السنوات ؟ كيف لم يسألوا أنفسهم عن نوع البناء الداخلي والقانون وأولويات الوظائف للحزب والاعتقال السياسي وأزمة الصحة والتعليم والعلاقات الداخلية والخارجية وغياب الانتخابات وسيطرة الأمن الداخلي بفروعه المنتشرة في الضفة وغزة وأدائه الفقير وملاحقته للمواطنين على الكلمة والتغريدة، كل ذلك كان يجب أن يخضع لتساؤلات كبيرة لأنه لا يمكن إلا أن يرتطم بشدة …. وها هو ارتطم فمن سيحاسب ومن سيدفع الثمن … اللحظة تقول إن الشعب من يدفع الحساب ويدفع الثمن.
في أثينا القديمة كانوا يجرون اختبارات الذكاء لمن يتقدمون للعمل في حقل السياسة، ترى لو جرى لدينا شيء من هذا كم عدد مَن سينجحون ؟ ما يحصده الفلسطينيون يقول إن قليلاً سيجتازون الاختبار هم ومستشاروهم وأعوانهم وموالوهم … لنا الله.