في اليوم الثمانين للحرب على غزة، عاد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو للتأكيد أن الحرب مستمرة حتى تدمير حركة “حماس”. وفي التزامن تتزايد بشكل مثابر الأوساط التي تشكّك باحتمالاتها وجدواها وسلّم أولوياتها، بعضها يوجّه الاتهامات لمن يقودها بخلط الأوراق والاستمرار في الحرب خوفاً من انهيار الائتلاف الحاكم. مقابل العشرات من ذوي عائلات المحتجزين، الذين كانوا يصرخون بقلوب مكسورة، مطالبين باستعادة أقاربهم، تحدّثَ نتنياهو داخل الكنيست الإسرائيلي، أمس، عن الحاجة لمواصلة الحرب، مستخدماً من جديد فزاعة “حماس” لترهيب مجمل الإسرائيليين من تبعات بقائها في غزة.
وقطع نتنياهو الشك باليقين، أمس، وفهمت عائلات المحتجزين أنه عملياً لن يوقف الحرب من أجل استعادة أبنائهم، وعبّر بعض هؤلاء لاحقاً عن خيبة أمل، فيما حَمَلَ معلقون إسرائيليون كثر على “بَلادة إحساس” نتنياهو وهو يتحدث لمن تشظّت قلوبهم واكتوت أرواحهم نتيجة بقاء أعزائهم في الأسر، وعرضة للقصف الجوي الإسرائيلي.
وقالت المعلقة السياسية البارزة في صحيفة “يديعوت أحرونوت” سيما كادمون، في مقال اليوم الثلاثاء بعنوان: “أين القلب؟”، إن نتنياهو لا يتصرف كما ينبغي أمام عائلات محطمة، ويواصل تشغيل “ماكنة نثر السمّ”، وتقسيم الإسرائيليين، ومحاولة إشغالهم مجدداً بكراهية متبادلة، فيعتبر أن الجنود القتلى أبطالٌ من اليمين، بينما المخطوفون وعائلاتهم من اليسار”.
ساعات رملية
وقبيل اللقاء مع نتنياهو، بادر عددٌ من عائلات المحتجزين لتثبيت ساعات رمل مقابل مقر وزارة الأمن في قلب تل أبيب، لجانب خيام الاعتصام، لتذكير صنّاع القرار بأن وقت أعزائهم محدود، ويشارفون على الموت داخل القطاع.
بخلاف نتنياهو تماماً، وفي تلميح غليظ، دعا رئيس المعارضة يائير لبيد لتغيير سلّم الأولويات، حتى بثمن وقف الحرب، فقال، في كلمته في الكنيست، إن “المحتجزين هدفٌ أهم وأكثر إلحاحاً”. وموقف لبيد هذا لا يتصادم فقط مع موقف نتنياهو ووزرائه والجيش، بل يتناقض مع موقف زميله الوزير بيني غانتس، الذي انتقل من المعارضة للائتلاف بعد الحرب، وهو، ورغم انتقادات متكررة لنتنياهو، يتماثل معه في الموقف والمضمون الداعي لمواصلة الحرب حتى تحقيق أهدافها المعلنة. تجلّى ذلك أمس في الكنيست، حيث قال غانتس إنه يجب احترام عائلات المحتجزين والتعامل معهم بحساسية وخشوع، لافتاً لضرورة مواصلة الحرب حتى تدمير “حماس”، معلّلاً ذلك بالقول إن وقفها الآن يعني زيادة تجرؤ أعداء إسرائيل عليها نتيجة تردي هيبتها وقوة ردعها. وربما يعكس ذلك رغبة غانتس بالتماثل مع أغلبية إسرائيلية تؤيد مواصلة الحرب على غزة (نصف الإسرائيليين ونيف يؤيدون مواصلة الحرب، حسب الاستطلاعات حتى الآن)، خاصة أن لديه، هو الآخر، حسابات حزبية وشخصية انتخابية، وعيناه على مقعد رئاسة الوزراء بعد نتنياهو.
وتطالب مجموعة من الوزراء بما يدعو له عددٌ من المراقبين الإسرائيليين بضرورة خنق المقاومة الفلسطينية داخل القطاع بحرمانه من المساعدات الإنسانية، كالماء والغذاء والوقود، من أجل حسم المعركة، التي طال أمدها، وباتت مكلفة أكثر.
وكشفت القناة 12 العبرية، ليلة أمس، أن هناك وزراء يدعون مجلس الحرب لوقف المساعدات الإنسانية ومجابهة الولايات المتحدة التي تشترط مواصلة تأييدها الحرب باستمرار قنال الإغاثة الإنسانية. ونوهت أن نتنياهو قد رد على ذلك بالقول، حسب تسريبات صحفية، إن إسرائيل لا تستطيع فعل ذلك، وخاصة الآن، لأن ذلك سيؤدي لحصار عالمي على إسرائيل. وهذا ما قاله للإذاعة العبرية الرسمية، صباح اليوم الثلاثاء، الوزير بلا حقيبة حيلي تروبر (الحزب الدولاني، برئاسة غانتس)، الذي قال إنه رغم انسداد الأفق، وتعثّر مساعي عقد صفقة جديدة علينا مواصلة تمكين إدخال مساعدات إنسانية للقطاع، فهذا جزء من ثمن الحرب”.
أزمة ثقة
وكان تروبر، بحديثه عن انسداد الأفق يقصد رفض الصفقة الكبرى التدريجية المقترحة من قبل مصر، التي رفضتها “حماس” وإسرائيل، التي تعتبرها استسلاماً.
وفي التزامن، تكشف مصادر إسرائيلية عن أزمة ثقة متصاعدة بين نتنياهو ووزير الأمن غالانت، على خلفية مساعي التوصل لصفقة. وقالت صحيفة “يديعوت أحرونوت”، اليوم، إن أزمة الثقة تنبع من “تعليمات شاذة لرؤساء المؤسسات الأمنية الاستخباراتية بعدم المشاركة في اجتماعات غالانت حول المخطوفين. وحسب التسريبات، فإن خلفية التوتّر تحامل نتنياهو بعدما اكتشف أن غالانت طلب إحاطات من رئيس الموساد، بعد زيارة سرية، قبل أن يطلع رئيس الوزراء أولاً، حيث يشدد نتنياهو على أن هذه تتم فقط بحضوره هو، وداخل مجلس الحرب”، ورسمياً نفى مكتب نتنياهو التسريبات، زاعماً أنه لا توجد تقييدات على مشاركة رئيس الموساد في أي اجتماع.
أهداف الحرب غير واقعية
في التزامن، ومقابل كل ذلك، يتواصل التشكيك في الجانب الإسرائيلي بجدوى واحتمالات وطريقة إدارة الحرب، مقابل معسكر وأوساط، معظمها ينتمي لليمين، تطالب بتصعيد الحرب بالقصف الجوي، وبتقليص المساعدات الانسانية.
في الأمس، أثارت أصداءً واسعة تصريحاتُ أهارون زئيف فاركاش، رئيس سابق للاستخبارات العسكرية، بتأكيده أن أهداف الحرب غير واقعية. ففي حديث لـ موقع “واينت”، قال فاركاش: “إننا بدأنا الحرب مع شعار “تدمير حماس”، وحالياً نحن أمام تحدّ جديد؛ لا يمكن إنهاء الحرب دون استعادة المخطوفين”. وبذلك يتوافق مع عدد متزايد من الجنرالات في الاحتياط، ومن المراقبين الإسرائيليين، أمثال رئيس الموساد الأسبق تمير باردو، الأعلى والأوضح صوتاً من بين هؤلاء.
الجيش وأبواقه ينقصهم القليل من التواضع
وعاد، اليوم، من يُعرف بـ “نبي الغضب” الإسرائيلي المناوب، الجنرال في الاحتياط يتسحاك بريك، للتحذير من مواصلة إسرائيل التورط بأخطاء خطيرة، بعدما كان قد تنبأ باحتمال وقوع “طوفان الأقصى”، قبل سنوات، منبهاً لعدم جاهزية الجيش البري للقتال.
في مقال تنشره صحيفة “هآرتس”، اليوم الثلاثاء، كَشَفَ يتسحاك بريك أنه يستند لمعلومات ميدانية استقاها من جنود وضباط يقاتلون داخل القطاع منذ البداية، ومنها توصّل للاستنتاجات التالية: الناطق العسكري دانئيل هغاري، والمحللون العسكريون في القنوات التلفزيونية الإسرائيلية يقدمون صورة مزيفة بكل ما يتعلق بآلاف القتلى في صفوف جنود “حماس”، وما يتعلق بالقتال وجهاً لوجه بيننا وبينهم. ويضيف جازما: “عدد قتلى حماس في الميدان بنيران قواتنا أقل بكثير مما يدعي الناطقون العسكريون والسياسيون. الحرب في معظمها لا تدار وجهاً لوجه، بعكس تقارير الناطق العسكري والمحللين في قنوات التلفزة. معظم القتلى والجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي نتيجة عبوات وألغام وصواريخ وقتال “غريلا”، دون أن نملك ما هو ملائم لهذا الطراز من القتال”.
في مصائد قاتلة
وكان بريك نفسه قد نبّه، في مقال نشرته صحيفة “معاريف” أمس، أن مفهوم رئيس الاستخبارات العسكرية الجنرال أهارون حليوه يقوم على الاعتقاد بأن “حماس” مرتدعة، ولم ير أمامه ضوءاً أحمر، عشية السابع من أكتوبر. وتابع، بلغة نقدية مباشرة: “إذا لم تتغير طريقة الاستخبارات العسكرية سنقع مجدداً في مصائد موت تهدد وجود إسرائيل. ما زالت الاستخبارات العسكرية حتى الآن تبلور تقييمات وتقديرات عن العدو بناءً على النوايا، لا على القدرات، وهذه غلطة، ينبغي العكس”.
الوزير حيلي : رغم انسداد الأفق، وتعثّر مساعي عقد صفقة جديدة علينا مواصلة تمكين إدخال مساعدات إنسانية للقطاع، فهذا جزء من ثمن الحرب
“حماس” الداخل والخارج
وعلى غرار بريك، تطرّقت صحيفة “هآرتس” لقلة التواضع لدى القيادات الإسرائيلية، وذلك من خلال نشر رسم كاريكاتير، اليوم، يبدو فيه نتنياهو بصورة الخالق محاطاً ببعض المقربين من السياسيين والصحفيين الأبواق، وبيده مصباح وهو يقول: “أعطيت أوامري بإنارة الكون”، وفي أعلى الرسم كتب: “سفر التكوين”. وهذه إشارة لانشغال نتنياهو الآن، في ذروة الحرب، بالبحث عن اسم جديد لها بدلاً من “السيوف الحديدية”، وهناك عدة أسماء مقترحات معظمها دينيّ، منها “سفر التكوين”، المستمد من العهد القديم، حيث قيل: “وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه.. وقال الله ليكن نور فكان نور….”.
ويبدو أن نتنياهو، بالبحث عن اسم توراتي، يواصل مسعاه في تديين الصراع، بغية تيسير مهمة الحشد، وتهويش اليهود على العرب، ومواصلة صدّ تصاعد موجة إسرائيلية تشكّك بالحرب وجدواها وحساباتها وحسابات نتنياهو شخصياً. وهذا ما دفع محرر الشؤون العربية في صحيفة “هآرتس” دكتور تسفي بار إيل، اليوم، للقول إن نتنياهو عالقٌ، فهو في قرارة نفسه يدرك جوهر الحرب، لكنه يخشى انهيار حكومته بحال أوقفها.
في المقابل، قال إن نتنياهو عالق ومتشابك مع زعيم “حماس” في غزة يحيى السنوار، الذي يخشى من نهاية الحرب لأنه يتوجس من رغبة قيادة “حماس” في الخارج لترتيب اليوم التالي في القطاع بدون السنوار.
ويتزامن قول بار إيل مع محاولات متكررة على لسان محللين إسرائيليين، خاصة في قنوات التلفزة العبرية لتسليط الضوء على “خلافات وتوترات” بين قيادة “حماس” في القطاع وقيادتها في الخارج، وهناك من يرى أن هذه محاولة “فرق تسد”.
في يومها الواحد والثمانين، يبدو مصير الحرب رهناً لقدرة المقاومة الفلسطينية على جبي ثمن باهظ من الجنود الغزاة، وبتصعيد “حزب الله” وإيران للجبهة المساندة، وباستمرار حالة التململ والتشكيك بها، وبإمكانيات نجاحها، وبأزمة الثقة المتزايدة مع نتنياهو وحكومته، وهذا المتغير الداخلي يبدو أكثر فاعلية من الضغوط الخارجية الخجولة والكاذبة، حتى الآن.